من فقه القرآن
التعليم النخبوي
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
أستاذ الفقه المقارن/ جامعة القدس
نتحدث
عن «التعليم النخبوي » في القرآن الكريم من خلال المسائل الآتية:
المسألة الاولى: التعليم لا يكون الا
بمعرفة الخط والكتابة، وهذا هو معنى قوله تعالى: «الذي علم بالقلم »، اي: علّم
الانسان الخط بالقلم، فأول ادوات العلم هي «القلم » قال قتادة: «القلم نعمة من
الله تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش .»
المسألة الثانية: والقلم هو أداة
القراءة، ولهذا قال الله عزوجل «اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم .»
المسألة الثالثة: فالتعليم بالقلم،
والقراءة والكتابة، نعمة عظيمة من الله تعالى على الانسان،شكرها يكون بأن يستخدم
الإنسان علمه فيما ينفع غيره من البشر والكائنات، قال القرطبي عن الله عزوجل:
«علّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل الى نور العلم، ونبّه على فضل علم
الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها الا هو، وما دونت العلوم،
ولا قيّدت الحكم، ولا ضبطت اخبار الاولين ومقالاتهم ولا كتب الله المنزلة الا بالكتابة،
ولولا هي ما استقامت امور الدين والدنيا .»
المسألة الرابعة: فأول مظاهر «التعليم
النخبوي » تلقيا او اداء، ان تستقيم به امور الخلق، دينا ودنيا، فاذا كان العلم
وسيلة لشقاء البشر لم يكن نخبويا ابدا، لان الانسان ينتخب من العلم ما يجعله يرقى
في درجات السعادة.
المسألة الخامسة: وحتى يكون الإنسان
نخبويا في تعلمه وتعليمه، فقد اعطاه الله عزوجل مع القلم اساسيات المعرفة
ووسائلها، فوهبه الفطرة والعقل، علمه اسماء كل شيء، كما قال سبحانه «علم الانسان
ما لم يعلم »، والانسان هو آدم عليه الصلاة والسلام، علمه اسماء كل شيء، قال تعالى
«وعلم آدم الاسماء كلها »، فلم يبقى شيء الا وعلم الله سبحانه آدم اسمه.. فالتعليم
النخبوي لا يكون الا بامتلاك وسائل المعرفة، وتوظيفها لصالح العلم، ولا علم من غير
عقل او فطرة، ولا ارتقاء به، دون وسائل وادوات معينة، واساسيات ينطلق منها كما ذكرنا
آنفا.
المسألة السادسة: والتعليم النخبوي
بمفهومه المعاصر ضمان، الاول: اعطاء الفرصة للاغنياء، ولذوي السلطان بالتعلم دون
غيرهم ممن هم دونهم في المستوى المالي والاجتماعي، وان كانوا أكثر منهم ذكاء
وتفوقا، وهذا القسم من التعليم يرفضه الاسلام جملة وتفصيلا، فالتعليم في الشريعة
الاسلامية حق للجميع، كلّ يدلي بدلوه فيه، فيكون حظه من العلم والمعرفة بقدر جهده
وطاقته، ولهذا امر النبي صلى الله عليه وسلم اسارى بدر بتعليم المسلمين، من غير
نظر الى مستوياتهم الاجتماعية والمالية، فمن علّم عشرة من ابناء المسلمين يطلق سراحه،
ولم يكن التعليم مقتصرا على فئة من الصحابة الكرام، فأبوهريرة رضي الله عنه الفقير
الذي لا يملك بيتا ولا مالا، كان من نخبة الصحابة الكرام في رواية الحديث، حتى
عدوه اكثرهم رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. الخ.
المسألة السابعة: فينبغي مراعاة هذه
المسألة في التعليم العالي عندنا، ويعطى للفقير المتفوق فرصة التعليم، للافادة من
نتاجه العلمي وتفوقه في المستقبل.
المسألة الثامنة: والقسم الثاني من
التعليم النخبوي هو الاهتمام «بالنخبة » من طلبة العلم، اعني اصحاب العقول
والمتفوقين، اذا اردنا ان نخرج اجيالا منتجة، ترتقي بمستوى شعبنا العلمي، ونلحق
ركب التفوق المادي والعلمي العالمي، وهذه النخبة من المتفوقين، اطلق عليها القرآن
الكريم اسم «أولو الالباب » وقد ورد ذكرهم في اكثر من موطن في سور القرآن الكريم.
المسألة التاسعة: «وأولو الالباب » هم
الذين يوظفون عقولهم، للبحث والاستنتاج والاستكشاف ولا يقفون عند تلقي المعرفة
وحفظها او معرفتها فقط، فالقرآن الكريم-مثلاً يقول «ان في خلق السموات والارض
واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الالباب ». فالنخبة من المتعلمين يستخدمون
عقولهم للنظر في ملكوت السموات والارض، للاكتشاف والاستنتاج. ولهذا قالت الاية
بعدها: «الذين يذكرون الله قياماً وقعودا ويتفكرون في خلق السموات والارض »! وهم
ببحثهم واعمالهم عقولهم، يصلون الى الحقائق العلمية، ولهذا يقولون: «ربنا ما خلقت
هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار .»
المسألة العاشرة: وقد فرق القرآن
الكريم بين النخبة اصحاب العقول، وبين غيرهم من الناس فقال سبحانه «قل هل يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون .»
المسألة الحادية عشرة: وحتى يكون
التعليم نخبوياً، يجب ان تكون المناهج الدراسية منتخبة، تؤدي وظيفة الرقي في
الحياة، والتقدم بخطى واثقة نحو السعادة الابدية، ولهذا كان القرآن الكريم والسنة
النبوية الصحيحة، هما المنهاج الاسلامي، ليس للمسلمين فحسب، وانما للناس كلهم،
ليصلوا من خلال ما وهبم الله من وسائل وأدوات المعرفة التي اشرنا اليها، ومن خلال
هذا المنهاج الرباني، الى تلاقي الامم على الحب والخير، والمعرفة المنتجة للتقدم
والامن والازدهار. وما كان المنهاج الاسلامي يوماً ليعيق طلب المعرفة، والبحث
والنظر والاستدلال، وواقع المسلمين الذين سبقونا، يخبرنا بذلك، فقد كانت حاضرة
الخلافة الاسلامية قبل قرون، قبلة الاوروبيين لطلب العلم والمعرفة...
المسألة الثانية عشرة: وليكون التعليم
نخبوياً، لا بد من انتخاب المعلم المؤهل، القادر على تعليم الاخرين، والتأثير فيهم
ايجاباً لا سلباً، لاحداث التغيير المرغوب في المتعلم، التغير المعرفي والتغير
السلوكي معاً. ولهذا اختار الله الانبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ليكونوا
معلمين للبشرية، وكان آخرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله عزوجل: هو الذي
بعث في الاميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة .»
ومن خلال الاية الكريمة، نرى ان مهمة المعلم المنتخب هي:
اولاً:
التعليم «ويعلمهم الكتاب والحكمة .»
ثانياً:
التربية «ويزكيهم .»
ثالثاً:
البحث العلمي...وهذه مسألة غائبة عن واقعنا في الجامعات الفلسطينية! حيث يركز
الاستاذ الجامعي، على تدريس طلابه «كتاباً » مقرراً...مع ان الاصل ان يجعل من
مساقه الذي يدرسه ميدانا للبحث العلمي...فلا يقتصر في التدريس على «كتاب مقرر »
يعتمد عليه الطلاب، بل يأمرهم بالرجوع الى عديد المصادر، ثم يطلب منهم اوراقاً
بحثية خلال الفصل الدراسي ويناقشها معهم، ان اراد تعلماً وتعليماً نخبوياً. والبحث
العلمي هو المراد-والله اعلم-من قوله تعالى «ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون » اذا اردنا
الشمول لهذا المقطع القرآني، عدا عن المعرفة المقصودة فيه. المسألة الثالثة عشرة:
والتعليم في الاسلام، كما يكون نخبوياً، بالاهتمام بذوي العقول، فإنه لا يتوقف
عندهم، بل تعطى الفرصة لجميع المسلمين، ذكوراً واناثاً، لطلب العلم، وتلقي
المعرفة، ولهذا قال الله سبحانه «هو الذي بعث في الاميين رسولاً منهم » فالاميون
كلهم من حقهم تلقي العلم، وطلب المعرفة...وهذا الذي يسمى اليوم ب «التعليم الاهلي
.
0 التعليقات:
إرسال تعليق