من فقه القرآن
سورة الحجرات
(1)
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
استاذ الفقه المقارن/ جامعة القدس
عضو الهيئة الادارية لهيئة العلماء والدعاة في فلسطين
قوله
تعالى (يا ايها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله ان الله
سميع عليم).
فقه
الآية الكريمة في المسائل الآتية:
المسألة الاولى:
هذه الآية هي اول آيات سورة الحجرات، وسورة الحجرات من السور المدنية، وهي ثماني
عشرة آية.
المسألة الثانية:
الحجرات جمع حجرة، وهي الرقعة من الارض المحجورة بحائط يحوط عليها.
المسألة الثالثة:
سميت سورة الحجرات بهذا الاسم للحديث عن حرمة بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وهي
الحجرات التي كان يسكن فيها زوجاته صلى الله عليه وسلم.
المسألة الرابعة:
وقد كان في العربي جفاء، فينادي على النبي صلى الله عليه وسلم من وراء تلك
الحجرات، دون مراعاة اي حرمة للبيت ولا لصاحبه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
المسألة الخامسة:
ولما كان العرب على هذه الحالة من الجفاء، وسوء الأدب في خطاب النبي صلى الله عليه
وسلم، وفي تلقيب الناس، انزل الله هذه السورة تأمر بمكارم الاخلاق ومراعاة الآداب.
المسألة السادسة:
هذه السورة سورة الاخلاق وسورة الآداب الاسلامية التي يجب على كل مسلم ان يتلوها،
ويفهم معانيها، ويعمل بأوامرها وينتهي عن نواهيها.
المسألة السابعة:
وهي ما اشار اليه المفسرون، فابن كثير يقول: «هذه آيات آدب الله تعالى بها عباده
المؤمنين فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والتبجيل
والاعظام.
المسألة الثامنة:
ولما كانت معظم الآيات والتوجيهات في هذه السورة تتعلق بالآداب المنوطة باللسان،
فإني اطلق عليها سورة «قل خيراً تغنم وقل شراً تندم » لانها تحذر من سوء الاخلاق
المتعلقة باللسان، وتؤدب المسلمين بتصحيح اللسان لالفاظه كي تكون موافقة لآداب
الاسلام واخلاقه.
المسألة التاسعة:
جمع قوله تعالى «يا ايها الذين آمنوا » في اول آية من سورة الحجرات عدة فوائد وهي:
1- ان الله تعالى خاطب المسلمين بأحب الصفات اليهم
وهي «الايمان » وهو أدب في الخطاب على المسلم ان يحرص عليه، فلا ينادي اخاه المسلم
الا بأحب الاسماء والصفات اليه.
2- نداء المسلمين بصفة الايمان فيه شرف للمنادي وهو
المؤمن، كما يقول أحدنا لصاحب المنزلة: يا سعادة.. يا جلالة.. يا معالي ،.. الخ.
3- في نداء المسلمين بهذه الصفة وهي
الايمان حث وتحريض لهم على القيام بالفعل المأمور به بعد ذلك، او الانتهاء ان كان
بعد النداء نهي، ولهذا قال عبدالله بن مسعود «اذا قال الله «يا ايها الذين آمنوا »
فارعها سمعك، فانه خير تؤمر به، او شر تنهى عنه .»
4- وفي نداء المسلمين بقوله تعالى: «يا ايها الذين
آمنوا » محفزات على الاستجابة لأمر الله ونهيه، وذلك من خلال:-
أ- المناداة باداء النداء «يا » وهي اداة نداء
للقريب ! ويشعر النداء بها ان المنادي قريب من الله تعالى، حبيب اليه وهي مع
الفارق في التشبيه، كالملك الذي يدني احد رعاياه منه، ويجلسه معه على فراشه، فيشعر
هذا بحب الملك له، فلا يتوانى في طاعته وتنفيذ امره.
ب- الهاء في قوله «أيها » زائدة للتنبيه وهي محفز
لجلب انتباه المنادي الى أهمية الخطاب الموجه اليه، فيهيء السامع نفسه، لسماع ما
يوجه اليه من خطاب.
ت- والمحفز الاخير ذكرناه وهو المناداة
بصفة الايمان. وفي هذه المحفزات الثلاثة، توجيه للمربي المسلم، ايا كان موقعه، الى
استخدامها لتؤثر في الخطاب ويستجيب لما يدعى اليه من امر او نهي.
المسألة العاشرة:
قوله تعالى: «لا تقدموا » هنا «لا » الناهية، والقاعدة الاصولية تقول«النهي يقتضي
التحريم » فالتقدم بالمعنى الذي سأذكره بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم حرام.
المسألة الحادية عشرة:
معنى قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا «اي: يا أيها الذين امروا بوحدانية الله
تعالى، وبنبوة بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثانية عشرة:
قوله تعالى: «لا تقدموا » اي: لا تستبقوه بالقول والحكم، بل افعلوا ما يرسمه لكم،
كما يفعل العباد المكرمون وهم الملائكة حيث قال «لا يسبقونه بالقول .»
المسألة الثالثة عشرة:
لا ينبغي لمسلم ان يقطع امرا دون الله ورسوله، او ان يعجل به قبلهما، وذلك حتى
يأذن الله ورسوله فيه، فيكون المسلم مقتديا فيما يأتي ويذر بكتاب الله وسنة نبيه
صلى الله عليه وسلم.
المسألة الرابعة عشرة:
وفي الآية «لا تقدموا بين يدي الله ورسوله »
مجموعة من الفوائد وهي:
1- ان مصدر الاحكام الشرعية الاول هو القرآن
الكريم.
2- ان المصدر الثاني للاحكام الشرعية هو الرسول صلى
الله عليه وسلم لانه يوحى اليه من ربه، والوحي وحيان، وحي متلو وهو القرآن، ووحي
غير متلو وهو السنة النبوية المطهرة.
3- ان الابتداع في الدين حرام، وكما قال النبي صلى
الله عليه وسلم: «من احدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد .»
4- ان على المسلم دائما في كل واقعة ونازلة، ان
يبحث عن حكمها الشرعي من الادلة الشرعية المعتبرة وهي القرآن والسنة والاجماع
والاجتهاد.
5- ان المسلم مضبوط في كل حركاته وسكناته بالحكم
الشرعي، فلا ينبغي له ان يتصرف بشيء من قول او فعل، قبل ان يعرف حكمه جائز ام غير
جائز، ليظل عاملا بقوله تعالى: «لا تقدموا بين يدي الله ورسوله .»
6- ان بعض الناس يتجرأ على الفتوى، فيتصدر للافتاء،
ويتوهم انه وصل الى هذه الدرجة العلمية، فهذا وامثاله من الذين يقدمون بين يدي
الله ورسوله، والعياذ بالله.
7-
المسألة الخامسة عشرة:
قوله تعالى: «لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، مجاز، ليس المراد هو نفس التقديم، بل
المراد لا تجعلوا لانفسكم تقدما عند النبي صلى الله عليه وسلم. وفي قوله تعالى:
«تقدموا » قراءتان، الاولى بضم التاء وهي قراءة الجمهور، والثانية بفتحها،
والقراءتان بضم التاء وفتحها متحدتان في المعنى. نسأل الله الاحتكام دائما الى
شريعته والسير على هديه.
من فقه القرآن
سورة الحجرات
(2)
الشيخ الدكتور محمد سليم علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
استاذ الفقه المقارن/ جامعة القدس
عضو الهيئة الإدارية لهيئة العلماء والدعاة في فلسطين
قوله
تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله ان الله
سميع عليم. يا ايها الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له
بالقول كجهر بعضكم لبعض ان تحبط اعمالكم وانتم لا تشعرون .» فقه الآيتين الكريمتين
في المسائل الآتية:
المسألة الاولى:
«قوله تعالى: «لا تقدموا » قال القرطبي: «اصل في ترك التعرض لاقوال النبي صلى الله
عليه وسلم وايجاب اتباعه، والاقتداء به .»
المسألة الثانية:
قوله تعالى: «بين يدي الله ورسوله » جرت هذه العبارة على سنن ضرب من المجاز، وهو
الذي يسميه اهل البيان تمثيلا.
المسألة الثالثة:
وجريان قوله تعالى «بين يدي الله ورسوله » على المجاز فيه فائدة، وهي تصوير الهجنة
والشناعة فيما نهوا عنه من الاقدام على امر من الامور، دون الاحتذاء على أمثلة
الكتاب والسنة.
المسألة الرابعة:
قوله تعالى: «ورسوله » عند قوله «بين يدي الله ورسوله » دلالة صريحة ومنطوقة من
خلال الضمير في «رسوله » على ان محمدا صلى الله عليه وسلم هو رسول مبعوث من رب
العالمين يجب على الانس والجن الايمان به، والا كان مصيرهم النار.
المسألة الخامسة:
«وكل من له قوامة ومسؤولية، كالأب والزوج وغيرهما، يجب الامتثال لاوامرهم
والانتهاء عن نواهيهم اذا كانت في غير معصية الله ورسوله، لأنه حينئذ لا طاعة
لمخلوق في معصية الخالق.
المسألة
السادسة: قوله تعالى: «واتقوا الله » اي خافوا الله ايها المؤمنون في قولكم، ان
تقولوا ما لم يأذن لكم به الله ورسوله، وفي غير ذلك من اموركم.
المسألة السابعة:
وفي الأمر بتقوى الله بعد النبي عن التقديم بين يدي الله ورسوله، اشارة في تحذير
للعلماء الذين يفصلون الفتاوى حسب الطلب، فهؤلاء شر الناس، لأنهم يضللون المسلمين
وغيرهم عن الحق واتباعه ويا ليت العلماء في هذا الزمان، حين تعرض لهم المسألة
ليفتوا فيها، ليتهم ينظرون الى قلوبهم حينها فقط، ولا يتحسسون جيوبهم.
المسألة الثامنة:
وفي الآية امر ونهي وتحذير، اما الأمر فهو الأمر بالتقوى، واما النهي فهو النهي عن
عدم اتباع الحكم الشرعي، والتحذير لمن خالف الأمر واجترأ على النهي، فالآية تقول
له: «ان الله سميع، يسمع لأقوالكم «عليم » بكل ما تفعلونه.
المسألة التاسعة:
ويجدر التنبيه هنا الى ان الحكم الشرعي المختلف فيه، بسبب ظنيه دلالته، لا يدخل في
قوله تعالى: «لا تقدموا بين يدي الله ورسوله الا اذا ظهر بالدليل الراجح حكم
المسألة لمن كان عالما بالترجيح ووصل الى هذه المرتبة، اما عوام المسلمين فلا
يدخلون في النهي هنا، لأنهم يقلدون العلماء.
المسألة العاشرة:
ذكر القرطبي ان هذه الاية «لا تقدموا بين يدي الله ورسوله » اختلف في سبب نزولها
على ستة اقوال، وبعد ان ذكر هذه الاسباب الستة، قال.. قال القاضي ويعني ابو بكر بن
العربي - وهي كلها صحيحة تدخل تحت العموم، فالله اعلم ما كان السبب المثير للاية
منها، ولعلها نزلت دون سبب .»
المسألة الحادية عشرة:
يمكن تطبيق بعض القواعد الاصولية من خلال الاية«يا ايها الذين امنوا لا تقدموا بين
يدي الله ورسوله واتقوا الله .» ومن هذه القواعد:
1- ان امر الله تعالى «واتقوا الله » مطلق، والامر
المطلق للوجوب.
2- وكذلك النهي في قوله تعالى ( لا
تقدموا بين يدي الله ورسوله) والنهي يقتفي التحريم.
ان رواية المبتدعة مقبولة اذا لم يعرف عنهم
استحلال الكذب لنصرة مذهبهم. وهذا بالطبع اذا كانت الرواية عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم التي اوردوها ثابتة وصحيحة.
المسألة الثانية عشرة:
قوله تعالى : «يا ايها الذين امنوا » في بداية الاية الثانية تكرار للنداء الذي
سبق في الاية الاولى (يا ايها الذين امنوا) ولاعادة النداء مجموعة من الفوائد وهي:
1- بيان زيادة الشفقة على المسترشد.
2- ليقبل المنادي على استماع الكلام ويجعل باله
منه.
3- لئلا يتوهم متوهم ان المخاطب في الاية الثانية
غير المخاطب في الاية الاولى.
4- ان يعلم ان كل واحد من الكلامين مقصود وليس
الثاني تأكيدا للاول، قال الزمخشري في الكشاف : «اعادة النداء عليهم استدعاء منهم
لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد، وتطرية الانصات لكل حكم نازل، وتحريرا منهم
لئلا يفترقوا ويغفلوا عن تألمهم، وما اخذوا به عند حضور مجلس رسول الله صلى الله
عليه وسلم من الادب الذي المحافظة عليه تعود عليهم بعظيم الجدوى في دينهم، وذلك
لان في اعظام صاحب الشرع، اعظام ما ورد به .»
المسألة الثالثة عشرة:
من الاداب التي على المسلم الالتزام بها كما ورد في الاية الاولى من سورة الحجرات،
التالية :-
1- ادب مناداة الاخرين والاهتمام بهم اثناء
مناداتهم.
2- مخاطبة الناس بأحب الاسماء والصفات اليهم.
3- ان يكون المسلم حريصا على اتباع اسباب قبول
الناس لكلامه.
4- وجوب الائتمار بأوامر الله عز وجل.
5- وجوب الانتهاء عن نواهي الله عز وجل.
6- وجوب التقوى بمعناها الشامل للادبين السابقين
الرابع والخامس.
7- مراقبة الله في كل قول وعمل، لان الله «سميع »
لما يقال «عليم » بما يفعل العباد. نفعنا الله واياكم بكل خير وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى اله وصحبه اجمعين.
من فقه القرآن
سورة الحجرات
(3)
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
عضو «الهيئة الإدارية » لهيئة العلماء والدعاة في فلسطين
استاذ الفقه المقارن /جامعة القدس
قوله
تعالى «يا ايها الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول
كجهر بعضكم لبعض ان تحبط اعمالكم وانتم لا تشعرون .» فقه الاية الكريمة في المسائل
الاتي:
المسألة الاولى:
حرمة النبي صلى الله عليه وسلم في احترامه وتوقيره ميتا كحرمته حيا، وقال ابو بكر
بن العربي وكلامه المأثور بعد موته في الرقعة مثال كلامه المسموع من لفظه، فاذا
قرىء كلامه، وجب على كل حاضر الا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك
في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور
الازمنة بقوله تعالى «واذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا وكلامه صلى الله عليه
وسلم من الوحي، وله من الحكمة مثل ما للقرآن .»
المسألة الثانية:
لم يستأنف النداء حين قال ولا تجهروا له بالقول كما استأنفه من قبل، لان قوله
تعالى لا ترفعوا اصواتكم من جنس لا تجهروا. واما في السابق فقد استأنف النداء لكون
احدهما فعلا لا تقدموا ، والامر قولا لاترفعوا اصواتكم.
المسألة الثالثة:
وعند قوله تعالى لا ترفعوا أصواتكم قال القرطبي: «وقد كره بعض العلماء رفع الصوت
عند قبره عليه الصلاة والسلام، وكره بعض العلماء رفع الصوت في مجالس العلماء
تشريفا لهم اذ هم ورثة الانبياء
المسألة الرابعة:
قوله تعالى ولا تجهروا له بالقول كان المنافقون يرفعون اصواتهم عند النبي صلى الله
عليه وسلم، ليقتدي بهم ضعفة المسلمين، فنهى المسلمون عن ذلك.
المسألة الخامسة
: الكاف في قوله تعالى كجهر بعضكم للتشبيه، وهي في محل نصب، والمعنى: لا تجهروا
للنبي صلى الله عليه وسلم جهرا مثل جهر بعضكم لبعض.
المسألة السادسة:
والمسلمون لم ينهوا عن الجهر مطلقا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فالنهي -
كما قال القرطبي - «لم يتناول رفع الصوت الذي يتأذى به رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وهو ما كان منهم في الحرب، او في مجادلة معاند، او ارهاب عدو، او ما اشبه
ذلك، ففي الحديث انه قال عليه الصلاة والسلام للعباسي ابن عبد المطلب لما انهزم
الناس يوم حنين اصرخ بالناس، وكان العباس اجهر الناس صوتا وقال القرطبي ايضا:لم
ينهوا عن الجهر مطلقا حتى يسوغ لهم الا ان يكلموه بالهمس والمخافتة، وانما نهوا عن
جهر مخصوص مقيد بصفة، اعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه فيما بينهم، وهو
الخلو عن مراعاة أبهة النبوة، وجلالة مقدارها، وانحطاط سائر الرتب وان جلّت عن رتبتها
.»
المسألة السابعة:
وعند قوله تعالى ولا تجهروا له بالقول قال مجاهد: «لا تنادوا نداء » ولكن قولوا
قولا لينا يا رسول الله »، وقال قتادة: «كانوا يجهرون له بالكلام، ويرفعون
اصواتهم، فوعظهم الله ونهاهم عن ذلك »، وقال الضحاك: «نهاهم الله ان ينادوه كما
ينادي بعضهم بعضا، وامرهم ان يشرفوه ويعظموه، ويدعون اذا دعوه باسم النبوة .»
المسألة الثامنة
: قوله تعالى ان تحبط فيها وجهان عند علماء اللغة :
1-
كراهة ان يحبط
2-
لئلا تحبط، وذكر
الرازي في «مفاتيح الغيب » وجها ثالثا وهو : «واتقوا الله، واجتنبوا ان تحبط
اعمالكم » وقال الطبري معناها: «ان لا تحبط اعمالكم فتذهب باطلة لا ثواب لكم عليها
ولا جزاء برفع اصواتكم » فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وجهركم له بالقول كجهر
بعضكم لبعض .»
المسألة التاسعة
: فقوله تعالى ان تحبط اعمالكم اما علة للنهي، اي: لا تجهروا خشية ان تحبط او
كراهة ان تحبط .. او للنهي، اي: لا تجهروا لاجل الحبوط، فان الجهر حيث كان بصدد
الاداء الى الهبوط، فكأنه فعل لاجله على طريقة التمثيل.. وليس المراد بما نهى عنه
من الرفع والجهر ما يقارنه الاستخفاف والاستهانة فان ذلك كفر .»
المسألة العاشرة:
لما نزل قوله تعالى ولا تجهروا له بالقول
قال ابو بكر: يا رسول الله، والله لا اكلمك الا السرار او اخا السرار حتى القى
الله تعالى، وعن عمر انه كان يكلمه عليه الصلاة والسلام كأخي السرار لا يسمعه حتى
يستفهمه، وكان ابو بكر اذا قدم على رسول الله الوفود ارسل اليهم من يعلمهم كيف يسلمون،
ويأمرهم بالوقار والسكينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المسألة الحادية عشرة:
قوله تعالى وأنتم لا تشعرون اي وانتم لا تعلمون ولا تدرون.
المسألة الثانية عشرة:
من فوائد هذه الاية الكريمة ما يلي:
1-
يحرم على المسلم امران
ذكرتهما الاية وهما :
أ- رفع الصوت فوق صوت النبي.
ب- المجاهرة بخطابه كما يجهر احدنا لصاحبه في
الخطاب.
2-
سوء الادب في مخاطبة
النبي صلى الله عليه وسلم، محبط للاعمال، وان كان فاعله متعمدا كان ذلك كفرا.
3-
وجوب احترام النبي
وتقديره ميتا، كأنه يعيش بيننا.
4-
اذا ذكر النبي صلى
الله عليه وسلم، او ذكر حديثه الشريف او سيرته العطرة، وجب الانصات والاستماع
واخفاض الصوت حين الاضطرار الى الكلام.
5-
وجوب احترام العلماء الصالحين، واولي الامر
والشأن كالوالدين وغيرهما، ومن ذلك الادب في مخاطبتهم والحديث معهم.
6-
الادب عند زيارة قبره
الشريف، وليتذكر المسلم حينئذ ان لو كان النبي صلى الله عليه وسلم حيا وهو واقف
امامه.
7-
من صفات المنافقين سوء الادب مع العلماء، ومن صفات الكافرين
ايذاء النبي صلى الله عليه وسلم بشتى انواع الايذاء ومنه الشتم والاستهزاء والرسوم
وغيرها. وذلك كله كفر، يوجب بغضهم ومعاداتهم.
8-
رفع الصوت لمصلحة
الاسلام في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم حيا وميتا غير منهي عنه، كرفع الصوت في
مواقف اغاظة الاعداء.
نسأل الله الادب وحسن الخلق مع الرسول الكريم ومع كل من له حق
علينا.
من فقه القرآن
سورة الحجرات
(4)
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
استاذ الفقه المقارن /جامعة القدس
«ان
الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله اولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، لهم
مغفرة واجر عظيم .»
فقه
الآية الكريمة وفوائدها في المسائل الآتية:
المسألة الاولى:
«ادبت الايتان السابقتان المسلمين بأدب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأدب
الحديث بين يديه الشريفتين، ثم جاءت هذه الآية الكريمة في هؤلاء الصحابة الكرام
الذين تأدبوا بهذا الادب الرباني، وعلى رأسهم الصديق والفاروق وثابت بن قيس. وهي
آية تشمل كل مسلم، يتأدب بهذا الأدب، وهي مدح وثناء لكل من قدم كلام الله تعالى
وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على كل شيء سواهما، من قول وفعل، وشهوة وهوى ورأي.
المسألة الثانية:
قوله تعالى: «ان الذين يغضون » جاءت فيه «ان » مؤكدة لمضمون الجملة، وخبرها جملة
من اسم الاشارة، وفي هذا تضخيم وتعريف وتنويه بهؤلاء الذين يغضون اصواتهم عند
الرسول صلى الله عليه وسلم لأن «اولئك » تدل على التفخيم والمعرفة بعده.
المسألة الثالثة:
قوله تعالى: «يغضون اصواتهم » اي: يخفضونه ولا يجهرون به! وفي هذا اجلال لرسول
الله صلى الله عليه وسلم، وكم من المسلمين اليوم لا يتأدبون بهذ الادب، حين يتلى
كلام الله، وحين يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة او محاضرة او درس!!
المسألة الرابعة:
وغض الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند من له منزلة كالأب والعالم يأخذ
نفس الحكم، فلينتبه الابناء حين يحدثون اباءهم، وليحذر عامة الناس حين يكلمون
العلماء ويخاطبونهم.
المسألة الخامسة:
وغض الصوت بشكل عام، ادب على كل مسلم ان يتأدب به، فلا يرفع صوته، الا عند الحاجة
وبقدرها، وقد أدب لقمان ابنه بهذا الادب واوصاه به فقال: «واغضض من صوتك » وجعل
لقمان نكارة رفع الصوت من غير حاجة، كنكارة صوت الحمار، فنهيقه فمذموم غير محبوب
لسامعه.
المسألة السادسة:
قوله تعالى «عند رسول الله » تأكيد لاصطفاء النبي صلى الله عليه وسلم رسولا
للعالمين، وانه مبلغ عند ربه، وفيه ايضا ان كل مبلغ عند الله عز وجل، وعند رسوله
صلى الله عليه وسلم بحق، يجب على كل مستمع له، ان ينصت اليه، وان يغض صوته عنده
احتراما ومهابه للوصيين الذين يستمع اليهما، كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه
وسلم.
المسألة السابعة:
قوله تعالى «امتحن الله قلوبهم » الامتحان: «افتعال من محنت الاديم محنا اوسعته،
فكل شيء جهدته فقد محنته، وامتحان الله لقلوب الصحابة هو انه «اختبرها واخلصها
للتقوى واختصها بها .»
المسألة
الثامنة : والفخر ال رازي في تفسيره عند قوله تعالى )امتحن الله قلوبهم للتقوى(
قال: «فيه وجوه .»
1- امتحنها ليعلم منها التقوى، فان من
يعظم احدا من ابناء جنسه لكونه رسولا مرسلا يكون تعظيمه للرسل اعظم وخوفه اقوى.
2- امتحن اي: علم وعرف، لان الامتحان
تعرف الشيء، فيجوز استعماله في معناه، وعلى هذا فاللام تتعلق بمحذوف تقديره عرف
الله قلوبهم صالحة، اي كائنة للتقوى، كما يقول القائل: انت لكذا: اي صالح او كائن.
3- امتحن اي: اخلص، يقال للذهب ممتحن، اي
مخلص في النار.
4- ويحتمل ان يكون معناه امتحنها للتقوى
اللام للتقليل وهو يحتمل وجهين احدهما: ان يكون تعليلا يجري مجرى بيان السبب
المتقدم كما يقول القائل: جئتك لاكرامك لي امس، اي صار ذلك الاكرام السابق سبب
المجيء. وثانيها: ان يكون تعليلا يجري مجرى بيان غاية المقصود المتوقع الذي يكون
لاحقا لا سابقا كما يقول القائل: جئتك لاداء الواجب، فان قلنا بالاول فتحقيقه هو
ان الله علم ما في قلوبهم من تقواه وامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها، ولولا ان
قلوبهم كانت مملوءة من التقوى لما امرهم بتعظيم رسوله وتقديم بنيه على انفسهم، بل
كان يقول لهم آمنوا برسولي ولا تؤذوه ولا تكذبوه،فان الكافر اول ما يؤمن يؤمر
بالاعتراف بكون الشيء صادقا، وبين من قيل له لا تستهزىء برسول الله ولا تكذبه ولا
تؤذه، وبين من قيل له لا ترفع صوتك عنده ولا تجعل لنفسك وزنا بين يديه بون عظيم.
فان قلنا بالثاني فتحقيقه هو ان الله تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته ومعرفة رسوله
بالتقوى، ليرزقهم الله التقوى التي هي حق التقاة، وهي التي لا تخشى مع خشية الله
احدا،
فنراه آمنا من كل مخيف، لا يخاف في الدنيا بخسا، ولا يخاف في الاخرة نحسا. واعلم
انه يقدر تقديمك للنبي صلى الله عليه وسلم على نفسك في الدنيا يكون تقديم النبي
اياك في العقبى.
المسألة التاسعة:
وللسلف الصالح اقوال عند قوله تعالى امتحن وهذه بعضها:
قال
مجاهد: امتحن اي اخلص
وقال
قتادة: امتحن: اخلص الله قلوبهم فيما احب.
وقال
عمر: ان الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها )اولئك الذين امتحن الله قلوبهم
للتقوى( وقال مكحول: نفس ابن آدم شابة ولو التقت ترقووتاه من الكبر، الا من امتحن
الله قلبه للتقوى وقليل ما هم.
وقال
الحسين: من امتحن الله قلبه للتقوى كان شعاره القرآن، ودثاره الايمان، وسراجه
التفكر، وطيبه التقوى، وطهارته التوبة، ونظافته الحلال، وزينته الورع، وعلمه
الاخرة، وثقته بالله، ومقامه عند الله، وصومه الى الممات، وافطاره من الجنة، وجمعه
للحسنات، وكنزه اخلاقه، وحصنه المراقبة، ونظره المشاهدة.
المسألة العاشرة:
قوله تعالى «لهم مغفرة واجر عظيم .» جاء بتنكير لفظي «مغفرة » او «أجر » وذلك
مبالغة في عظم المغفرة والاجر، بحيث لا يعرف كنهه. نسأل الله الادب مع رسوله صلى
الله عليه وسلم والادب مع العباد.
من فقه القرآن
سورة الحجرات
(5)
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي خطيب المسجد الأقصى المبارك
استاذ الفقه المقارن/ جامعة القدس
قوله
تعالى: «ان الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو انهم صبروا حتى
تخرج اليهم لكان خيرا لهم، والله غفور رحيم .» فقه هاتين الايتين الكريمتين
وفوائدهما في المسائل الآتية:
>
المسألة الاولى: اختلف في سبب نزولها، منها ما
رواه الترمذي عن البراء بن عازب، وهو مروي ايضا عن مجاهد وغيره انها نزلت في اعراب
بني تميم، قدم وفد منهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلوا المسجد، ونادوا
النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته ان اخرج الينا، فان مدحنا زين، وذمنا
شين، وكانوا سبعين رجلا قدموا لفداء ذراري لهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم نام
للقائلة، وروي ان الذي نادى الاقرع حجرة
بن
حابس، وانه القائل ان مدحي زين، وذمي شين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذاك
الله .»
>
المسألة الثانية: الحجرات جمع حجرة، وهي الرقعة من
الارض المحجورة بحائط غوط عليها.
>
المسألة الثالثة: النبي صلى الله عليه وسلم كان
يقيل في حجرة واحدة، وجمعت الحجرة الى حجرات، اجلالا لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقوله تعالى «من وراء الحجرات » كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه، وقد
ازدادت الكناية بايقاع الحجرات معرفة بالالف واللام دون الاضافة، وفي ذلك من حسن
الاداب ما لا يخفى.
>
المسألة الرابعة: وفي ورود الآية على هذا النمط
بلفظ الحجرات تسجيل على الصائحين من ورائها بالسفه والجهل.
>
المسألة الخامسة: وفي الآية اشارة الى ترك الادب
من وجوه وهي:
1- النداء فان نداء الرجل الكبير قبيح، بل الادب
الحضور بين يديه، وعرض الحاجة اليه.
2- النداء من وراء الحجرات، يعني انه يريد من
المنادى عليه حضوره اليه، وهي تتنافى مع الادب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- الحجرات تدل على ان النبي صلى الله عليه وسلم
كان في موطن خلوته، ومن الادب عدم المجيء اليه في هذا الوقت، وقت القيلولة.
>
المسألة السادسة: قوله تعالى «من وراء » الوراء
كلمة من الاضداد، فالمراد هنا اما الخلف واما القدام.
>
المسألة السابعة: قوله تعالى «اكثرهم لا يعقلون »
اي النداء الصادر منهم لم يكن مقرونا بحسن الادب، كانوا فيه خارجين عن درجة من
يعقل، وكان نداؤهم كصياح، صدر من بعض الحيوان.
>
المسألة الثامنة: وقوله تعالى «اكثرهم لا يعقلون
.» ايضا قال العماد: فيه وجهان، الاول: لا يعلمون فعبر عن العلم بالعقل، لانه من
نتائجه، والثاني: لا يعقلون افعال العقلاء، لتهورهم وقلة اناتهم، وهذا قول محتمل.
>
المسألة التاسعة: قوله تعالى «اكثرهم » فيه وجهان
:
1- ان العرب تذكر الاكثر وتريد الاقل، وانما تأتي
بالاكثر احترازا عن الكذب، واحتياطا في الكلام، لان الكذب مما يحبط به عمل الانسان
في بعض الاشياء، فيقول الاكثر وفي اعتقاده الكل، ثم ان الله تعالى مع احاطة علمه
بالامور، اتى بما يتناسب كلامهم، وفيه اشارة لطيفة، وهي ان الله تعالى يقول: انا
مع احاطة علمي بكل شيء، جريت على عادتكم، استحسانا لتلك العادة وهي الاحتراز عن
الكذب، فلا تتركوها، واجعلوا اختياري ذلك في كلامي، دليلا قاطعا على رضائي بذلك.
2- ان يكون المراد انهم في اكثر احوالهم لا يعقلون،
ويحتمل وجها.
3- وهو ان يقال: لعل منهم من رجع عن تلك الاهواء،
ومن استمر على تلك العادة الرديئة فقال «اكثرهم » اخراجا لمن ندم منهم عنها.
>
المسألة العاشرة: قوله تعالى: «ولو انهم صبروا »
ا: لو ثبت صبرهم، والصبر: حبس النفس عن ان تنازع الى هواها، وقيل: الصبر مرّ لا
يتجرعه الا حر .»
>
المسألة الحادية عشرة: قوله تعالى «حتى تخرج اليهم » يفيد انه صلى الله عليه وسلم
لو خرج، ولم يكن خروجه اليهم ولأجلهم، للزمهم ان يصبروا الى ان يعلموا ان خروجه
اليهم.
>
المسألة الثانية عشرة: قوله تعالى «ان الله غفور
رحيم » اي: بليغ الغفران والرحمة، فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء ان تابوا
وانابوا، وفي هذا بشرى لمن يتجرأ على شتم الذات الالهية والدين والنبي والكعبة والقرآن،
ان يتوبوا قبل ان يريهم الله نقمته وعذابه في الدنيا قبل الآخرة، وفيه بشرى لكل
مسلم ومسلمة، يقدم بين يدي الله ورسوله، ويسيء الادب معهما، بمخالفة اوامرها،
وانتهاك المحارم. فهلموا الى مغفرة الله ايها الناس.
من
فقه القرآن
سورة
الحجرات (6)
الشيخ
د. محمد سليم محمد علي
خطيب
المسجد الأقصى المبارك
استاذ
الفقه المقارن/ جامعة القدس
قال الله تعالى
( واعلموا ان فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم ولكن الله حبب
اليكم الايمان وزينه في قلوبكم، وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان، اولئك هم
الراشدون)
فقه الاية
الكريمة وفوائدها في المسائل الاتية:
المسألة
الاولى:
قوله تعالى واعلموا ان فيكم رسول الله.. الخ وعظ من الله سبحانه لعباده المؤمنين،
والوعظ اما ان يكون امرا للاثبات به، او نهيا لاجتنابه، وهنا وعظ فيه نهى عن
الباطل، او التسرع عنه وصول الخبر اليهم من غير تبين، ويكون المعنى : واعلموا ان
فيكم رسول الله، يعلمه الله ابناءكم فلا تكذبوا فتفتضحوا.
المسألة
الثانية:
وكم من خبر يتلقاه المسلم متسرعا من غير تبين، فيكون باطلا وكاذبا، فيجني عاقبته
شرا والما وحسرة، فواجب المسلم الانزجار بهذه الموعظة الربانية السابقة.
المسألة
الثالثة:
قوله تعالى لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم اما ان يكون جملة مستأنفه، او ان
تكون في محل نصب على الحال من ضمير فيكم، ويكون المعنى: لو يطيعكم الرسول في كثير
من الاخبار التي تخبرونه بها مما تجيئون به من الاخبار الباطلة، وبما تشيرون به
عليه من ارائكم التي ليست بصواب لأدى ذلك الى وقوعكم في العنت.
المسألة
الرابعة:
وفي المسألة السابقة توجيه لأولي الامر من المسلمين كالآباء والازواج والمدراء
وغيرهم، ان يفحصوا كل خير يأتيهم، ويتبينوا صحته من كذبه، ومن هذا الذي جاء به،
حتى لا تكون العواقب غير محمودة، وان تظل هذه الاخبار محصورة فلا يذيعونها بين
الناس فينشرون الشر بين ابناء المجتمع، وبالمثال يتضح المقال، فبعض الاباء او
الامهات حين يأتيه ابنا مضروبا من ابن الجيران او من فلان من الناس، ثم يكذب عليه
ابنه ليبرر ما حصل له، فانه يأخذ كلامه على محمل الجد والصدق، ثم لا يلبث ان يطور
الامر ليصبح بين اسرتين ثم بين عشيرتين والعواقب في كلا الحالتين وخيمة، ومثال اخر
بعض الفساق من الناس حديثهم امرأة في عرضها وشرفها، فيأخذ الناس هذا الامر على
محمل الصدق، فيقذفونها حتى يصل الامر احيانا الى قتلها من ذويها، وهذا كله من فعل
الشيطان الرجيم، ويسبب العجلة وعدم ترك التريث في نقل الاخبار.
المسألة
الخامسة:
قول تعالى لعنتم العنت هو التعب والاثم والهلاك والجهد ولكن الرسول صلى الله عليه
وسلم لا يفعل ذلك، فلا يطيقكم في غالب ما تريدون، حتى يتضح له الامر، وهو صلى الله
عليه وسلم لا يسارع الى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه وقد ضربت مثالين سابقا،
واضرب هنا مثالا ثالثا لاهميته ولانه واقع في مجتمعنا، فأم الزوج قد تكذب على
ابنها، وتزعم ان زوجته فعلت وفعلت، فتفسد العلاقة بين ابنها وزوجته وقد تصل الى الطلاق
او بالعكس، فقد تكذب الزوجة على زوجها وتزعم ان امه تفعل بها كذا وكذا من الايذاء،
فيصدقها ويتسرع في اخذ القرار، فيعق امه فلنحذر من عدم التبني! ولنأتمر بأمر الله،
ونجتنب نهيه في التعامل مع الاخبار الواردة الينا وفي كل امر.
المسألة
السادسة:
قوله تعالى ولكن الله حبب اليكم الايمان اي ان الله جعل الايمان احب الاشياء اليكم
فهو محبوب لديكم، لا يصدر منكم الاقوال والافعال الا ما يوافقه ويقتضيه من كل عمل
صالح، وترك التسرع في استفتاء الاخبار وعدم التثبت فيها.
المسألة
السابعة:
وقيل ان قوله تعالى ولكن الله حبب اليكم الايمان يراد به طائفة من المسلمين، لا
يتصفون بما اتصف به الاولون الذين ذكرتهم الايات الاوائل من السورة. والارجح ان
هذا خطاب من الله تعالى، لكل المسلمين تذكيرا لهم بما يتطلبه الايمان منهم،
وتوجيها لمحبته عز وجل التي جعلها في قلوب الصحابة.
المسألة
الثامنة:
والايمان اصل قبول الاعمال، وبدونه الكفر، والمؤمن محبوب عند الله، والكافر مبغوض
عنده.
المسألة التاسعة:
والايمان لا بد ان يقرنه العمل، فلا يكون مؤمنا من آمن باركان الاسلام الخمسة، ثم
لم يؤد فريضة، او لم ينته عن معصية، ولهذا جاء الايمان مقرونا بالاعمال الصالحة في
القرآن الكريم، فالدين الاسلامي درجات،اسلام ثم ايمان، ثم احسان، ثم يقين، فعلينا
بعلو الهمة لنصعد تلك الدرجات كلها.
المسألة
العاشرة:
قوله تعالى وزينه في قلوبكم اي حسّنه في قلوبكم، وهذا بتوفيق الله لهم، حتى جرت
اعمالهم واقوالهم وفق هذا الايمان.
المسألة
الحادية عشرة: والزينة ضمان، الاولى حقيقية، والثانية
نفسية، فاما الزينة الحقيقية فهي المحاسن التي خلقها الله تعالى، واما النفسية فهي
الصفات المأمور بها في دين الاسلام، واولها صفة الايمان والعلم والصدق والحلم
والاعتقادات الحسنة، كما في قوله تعالى«ولكن حبب الله اليكم الايمان وزينه في
قلوبكم .»
المسألة
الثانية عشرة: والزينة من حيث نوعها، زينة خلقية، وزينة
مكتسبة، وهي من حيث استعمالها زينة مباحة، وزينة مستحبة وزينة محرقة ومن حيث
اخفاؤها واظهارها زينة ظاهرة وزينة باطنة.
المسألة
الثالثة عشرة: فالزينة الخلقية مثل خلق الانسان في احسن
تقويم، والزينة المكتسبة مثل الحلي والجواهر، والزينة المباحة مثل زينة المسافرين
بالمراكب والشباب الفاخرة، وزينة الرجل المسلم عند الذهاب الى المساجد، والزينة
المستحبة مثل اتخاذ الطيب وترجل الشعر وغير ذلك، والزينة المحرمة مثل خروج المرأة متبرجة
بزينتها امام الرجال غير المحارم، وزينة ظاهرة كالوجه والكفين بالنسبة للمرأة،
وزينة باطنة، كباقي جسدها الذي يجب عليها ستره باللباس الشرعي.
المسألة
الرابعة عشرة: ومن الزينة المحبوبة لله تعالى في هذا الزمان
وفي كل وقت، زينة القوة يظهرها المسلم امام اعداء الاسلام، وزينة المال ينفقه
المسلم في سبيل الله، وزينة الاولاد، يربيهم المسلم على تعاليم الاسلام ويحبس
اذاهم ويكفه عن المسلمين.
المسألة
الخامسة عشرة: قوله تعالى وكره اليكم الكفر والفسوق
والعصيان اي: ان الله تعالى ذكره، جعل كل جنس يقع تحت هذه المسميات الثلاثة: الكفر
والفسوق والعصيان مكروها عندكم لا تحبونه.
المسألة
السادسة عشرة: قوله تعالى اولئك هم الراشدون اي : الذين
اتصفوا بهذه الصفات السابقة من الايمان وحبه، وبغض الكفر والفسوق والعصيان هؤلاء
راشدون، مستقيمون على الحق، واستقامتهم مع شدة وقوة، لا لين فيها ولا ضعف، مع
العلم الصحيح والمعرفة البينة الحقة، فالراشدون مأخوذة من الرشادة في اللغة وهي
الصخرة الصلبة فكل صخرة رشادة: وكل مسلم يتبع الحق عن علم وهدى ويتمسك به راشد.
نسأل الله الرشاد والهدى والتقى.
من فقه القرآن
سورة الحجرات (7)
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
استاذ الفقه المقارن/ جامعة القدس
قوله
تعالى:وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان. فقه هذا المقطع القرآني الكريم في
المسائل الآتية:
المسألة الاولى:
قوله تعالى «وكره اليكم الكفر »، أصل كلمة «الكفر » في اللغة العربية بفتح الكاف،
وهو كفر النعمة، اي سترها، ومنه قيل للزارع كافراً، لانه يكفر البذار، اي يواريها
في الارض ويقال لليل كافر، لانه يكفر النهار، اي يحجب ضياءه ويستر مافيه بظلمته،
قال الله تعالى:كمثل غيث أعجب الكفار نباته اي اعجب الزراع ، وقال الشاعر لبيد: في
ليلة كفر النجوم غمامها أي غطى الغمام النجوم فلم تعد تبصر وترى، ولشمس القرية
«كفراً » مثل «كفر قاسم » وغيرها، لستر اهلها، وكل شيء غطى شيئاً فقد كفره، ومنه
الكافر بالله، لأنه ستر نعمه عليه.
المسألة الثانية:
والكفر في الشرع: «انكار ما علم بالضرورة مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم به »
وقال ابو العباس المقري «ورد الكفر بمعنى ستر التوحيد وتغطيته.
المسألة الثالثة:
فالكافر بالله، هو الذي يخالف فطرة الله التي خلقه عليها، وهي اقرار النفس
الانسانية بوجود خالق خلقها، يستحق منها عبادته وتعظيمه، ولذلك فهو يغطي هذه
الفطرة بعناده وبانكاره، ولو ترك فطرته دون كفر،اي تغطيته بهوى او شهوة او شبهة،
لسارعت الى الايمان بالرسل الكرام، وما انزل اليهم وآخرهم محمد صلى الله عليه
وسلم.
المسألة الرابعة:
وقد ورد الكفر في القرآن الكريم بعدة معان، منها:
1-
كفر الجحود،قال الله
تعالى (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به)،فهم يعرفون صدق النبوة، لكنهم جحدوها.
2-
كفر العناد: فيعرف
الكافر الله بقلبه، ويعترف بلسانه، ولا يدين به، كما كان من ابي طالب حين قال:-
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة او حذار مسبة
لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً وبعض المسلمين اليوم احفاد لأبي طالب في هذا الكفر، فهم
يقرون بالشهادتين، ويعلمون ان الله حق، وان محمداً صلى الله عليه وسلم حق، وان
الجنة حق، وان النار حق، ثم اذا دعوته لاداء فريضة، كفريضة الصالة، اشار بيده
مستنكفاً، او معتذراً بأدب حتى يكبر سنه او يهديه الله، او اعتذر بسوء آدب، فأتهم
المصلين بأشنع الصفات، مع ان العقل والرشد يتطلب منه ان يفعل الخير ويبادر اليه،
ويحسن اداءه وان كان غيره قدوة سيئة فيه، ليكون هو القدوة لغيره.
3-
كفر البراءة، كما قال
الله تعالى على لسان ابراهيم عليه السلام «كفرنا بكم » فهو يتبرأ من قومه وكفرهم.
وايضاً براءة الكفار من بعضهم البعض يوم القيامة، كما قال عزوجل: «ثم يوم القيامة
يكفر بعضكم ببعض .» وقد اوجب الله على المسلمين ان يتبرأوا من الكفر والشرك وكل
معصية وكل ذنب، كما فعل سيدنا ابراهيم عليه الصلاة والسلام، وان من اكبر معوقات
نهضة المسلمين، ونصرهم عدم تحقيق الولاء للاسلام واهله وعدم البراءة من الكفر
والشرك والنفاق، فنرى بعضهم يتهافت كالفراش موالياً الكفرة والفسقة والمنافقين،
وينسى انه محاسب في الاخرة على كل ذلك، وان قبراً سيشتعل عليه ناراً الى يوم
القيامة.
4-
كفر النعمة، ومن ذلك
قوله تعالى «واشكروا لي ولا تكفرون » والعجب كل العجب من الانسان، اذا قدّم له
انسان في مثله خيراً او معروفاً شكره واثنى عليه، ولكن الله الذي وهبه الحياة
والجوارح والعقل وكرمه فأحسن خلقه، يكفر به، ولا يشكره على هذه النعم، بتحقيق
العبودية له سبحانه، فشكر الله يكون بالقلب واللسان والجوارح اما القلب فبالايمان
بالله تعالى واما اللسان فبالاقرار به عزوجل، واما الجوارح، فيستخدمها الانسان وفق
مرضاة الله وفي طاعته عزوجل.
5-
والكفر قد يكون كفر
نفاق، بأن يقر بلسانه وينكر قلباً، كحال عبد الله بن ابي سلول واحفاده الى يوم
القيامة.
المسألة الخامسة:
ومسألة تكفير الناس في غاية الاهمية، فلا يكفر الا من جحد منصوصاً عليه، وظهر للكل
من عام وخاص مشتركين في علمه، كوجوب الصلاة، وتحريم الخمر، اما من جحد وما استأثر
به الخواص فلا يكفر مثل سدس البنت مع بنت صلب، ولكن للاسف نرى من المسلمني من يحمل
مفاتيح الجنة ومفاتيح النار، فيدخل من شاء الجنة، وييدخل من شاء النار، ويوزع بطاقات
تعريف، ف هذا مسلم، وهذا فاسق، وهذا كافر، وهذا منافق، وهؤلاء شرذمة قليلون، لا
يملكون علماً، ولا يفقهون شرعاً، ويحسن بهم ان يحترموا عقولهم، فيكفوا ألسنتهم عن
كل ذلك الهراء المبين.
المسألة السادسة:
قوله تعالى: «..والعصيان » قال ابن منظور «العصيان خالف الطاعة، عصى العبد ربه،
اذا خالف امره.
المسألة السابعة:
واما العصيان شرعاً، فقد قال ابن تيمية «المعصية مخالفة الامر الشرعي، فمن خالف
امر الله الذي ارسل به رسله، وانزل به كتبه، فقد عصى ». وقيل «المعاصي: ترك
المأمورات وفعل المحظورات .» وعلى هذا، فمن خالف امر الله، وفعل محظوراً كأكل
الربا والزنى وشرب المخدرات وغير ذلك من المحرمات فهو عاص لله تعالى، ومن ترك
مأموراً به كصلاة الفريضة وصيام رمضان وصلة الرحم، وتوزيع الميراث كما وزعه الله تعالى،
فقد عصى ربه عزوجل وفي كلا الحالتين، عليه ان ينزع عن المعصية ويرجع الى الله بفعل
الواجب، وترك المنهي عنه.
المسألة الثامنة:
واذا اطلقت المعصية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، دخل في الكفر والفسوق، كقوله
تعالى: «ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها ابداً .» ومن المعاصي
التي توجب الكفر والفسوق ما اعتاد عليه بعض الناس في بلادنا من شتم الذات الالهية
والرسول والدين والقرآن، فهذا كله كفر، على صاحبه ان ينزع ويتوب الى الله، ويدخل في
الاس الم من جديد، لانه مرتد، فلا ينبغي له ان يلاقي ربه الذي خلقه بشتمه وشتم
دينه، فحينئذ لا يلاقي الا غضب الرب وعذابه.
من فقه القرآن
سورة الحجرات
(8)
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الاقصى المبارك رئيس المجلس الشرعي
للإصلاح المجتمعي/القدس
قوله
تعالى: «ولكن الله كره اليكم الكفر والفسوق والعصيان..وان طائفتان من المؤمنين
اختلفوا فأصلحوا بينهما..الخ .» فقه هذه المقاطع القرآنية، في المسائل الاتية:
المسألة الاولى:
قوله تعالى «والعصيان »، فقد جاء لفظ «العصيان » بألفاظ اخرى في الكتاب الكريم
والسنة المطهرة، ومن هذه الالفاظ:
1- الذنب «فكلا اخذنا بذنبه » قال الراغب: الذنب في
الاصل الاخذ بذنب الشيء، ويستخدم في كل فصل مستوخم عقباه، اعتباراً بذنب الشيء،
ولهذا يسمى الذنب تبعة وعقوبة، اعتباراً لما يحصل من عاقبته، فليحذر المسلم من
الذنب والوقوع به.
2- الخطيئة «انا كنا خاطئين » والمفرد خاطىء، وهو
الآثم، ويقع بعض الناس في الخطأ اللغوي حين يقولون: جوابك خاطىء، والصحيح: جوابك
خطأ، لان خاطىء آثم.
3- السيئة «ان الحسنان يذهبن السيئات » قال الراغب:
والخطيئة والسيئة يتقاربان، لكن الخطيئة اكثر ما تقال فيما لا يكون مقصوداً اليه
في نفسه.
4- الحوب «انه كان حوباً كبيراً .»
5- الاثم «قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما
بطن والاثم والبغي » قال الراغب: «الاثم والآثام اسم للافعال المبطئة عن الثواب،
والاثيم: كثير الاثم.
6- الفساد: «انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله
ويسعون في الارض فساداً ان يقتلوا او...قال الراغب: «الفساد:خروج الشيء عن
الاعتدال قليلاً كان الخروج او كثيراً، ويضاده الصلاح .»
7- العتو «فلما عتوا عما نهوا عنه... » قال الراغب
الاصفهاني في المفردات«العتو: النبؤ عن الطاعة .
8- الاصر «ويضع عنهم اصرهم ». قال ابن سيره: الاصر:
الذهب والثقل
المسألة الثانية:
فانظر ايها المسلم-رعاك الله-كم تنزل بإنسانيتك وكرامتك حين ترتكب معصية، فأنت
حينئذ تكون مذنباً، ثم ...عاثياً، مفسداً مثقلاً بالوزر، فاحرص على السلامة من
الذنوب، والتوبة منها كلما ضعفت عن الثبات على الطاعات.
المسألة الثالثة:
قوله تعالى «وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا... » ورد في سبب نزولها ما روي عن
أنس بن مالك قال: قلت: يا نبي الله، لو اتيت عبد الله ابن ابي، فانطلق اليه النبي
صلى الله عليه وسلم فركب حماراً، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما أتاه
النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن أبي: اليك عني! فوالله لقد آذاني نتن حمارك. فقال
رجل من الانصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم اطيب ريحا منك، فغضب
سعيد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما اصحابه، فكان بينهما حرب بالجريد
والايدي والنعال، فبلغنا انه انزل فيهم هذه الاية.
المسألة الرابعة:
وهذه اصح الاقوال في سبب النزول، وقد كان الصحابة الكرام خير القرون، بشهادة الله
تعالى لهم، وبشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وايضا بنصرتهم للرسول عليه
الصلاة والسلام في هذا الموقف وغيره. واقول : اذا كان الصحابة الكرام غضبوا لحمار
رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول منافق، فكيف لا يغضبون لرسولهم صلى الله عليه
وسلم الذي يؤذي بالرسوم والشتائم، فأين من ينصره حقا؟
المسألة الخامسة:
وقيل: وان الاية نزلت في امرأة من الانصار يقال لها «ام زيد » كانت تحث رجل من غير
الانصار فتخاصمت مع زوجها، ارادت ان تزور قومها فحبسها زوجها وجعلها في علية لا
يدخل عليها احد من اهلها وان المرأة بعثت الى قومها، فجاء قومها، فأنزلوها
لينطلقوا بها، فخرج الرجل فاستغاث اهله، فخرج بنو عمه ليحولوا بين المرأة واهلها،
فتدافعوا وتضاربوا بالنعال، فنزلت الاية.
المسألة السادسة:
وهذا القول وان كان ضعيفا، فان فيه عبرة وعظة للازواج اليوم، فبعض الازواج يظن انه
تزوج امرأة ليحبسها في بيته، فلا يأذن لها بالخروج لقضاء حوائجها الضرورية، ولا
يسمح لها بزيارة والديها ومحارمها.. ويحتج بقوله تعالى وقرن في بيوتكن . وتوجيه
هذا الامر الرباني ان الاصل في المرأة انها ربة بيت، ترعى شؤون زوجها واولادها
فكما ان الرجل يعمل، فيحبس نفسه ساعات النهار من اجل النفقة عليها، فهي ايضا تبقى
في بيتها لتقوم بواجبه رعاية اسرتها،وهذا لا يمنعها من الخروج من البيت لقضاء
حوائجها الضرورية، كالتعليم او التطبيب او القضاء او غير ذلك، ولا ينبغي للزوج ان
يمنعها والا اذا ترتب على ذلك مفسدة بينة واضحة، وكذلك لا ينبغي للزوج ان يمنعها
من زيارة والديها او محارمها، والعلماء وقانون الاحوال الشخصية اجازوا للزوجة
الخروج من البيت لزيارة والديها بغير اذن زوجها وان كان ظالما لها يمنعها كل ثلاثة
اشهر مرة، وقيل: كل اسبوع مرة على الا يكون ذلك على حساب رعاية الاولاد والزوج. وعلى
الزوج ان يدرك انه تزوج بانسانة لها مشاعرها واحاسيسها وان يكون تقيا، لانه ليس من
التقوى ظلم الضعفاء من الناس كالزوجات والزوج بتعنته يفرض على نفسه وعلى اقارب
زوجته الخصومة والنزاع، وهذا ما لا يرضها الله للمسلمين فيا ايها المسلم اوغل في
دينك برفق، فان المنبت لا ارضا قطع ولا ظهرا ابقى.
نسأل الله الصلاح والهداية
سورة الحجرات 9
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
استاذ الفقه المقارن/جامعة القدس/
قوله
تعالى «وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما...الخ الاية »
فقه
الاية الكريمة وفوائدها في المسائل التالية:
المسألة الاولى:
قوله تعالى «طائفتان، مفردها طائفة، والطائفة تطلق على الجماعة من الناس وتطلق على
غير الناس، قال ابن العربي: «الطائفة كلمة تطلق في اللغة على الواحد وما لا يحصره
عدد » وكل جماعة من الناس او من غير الناس، جمعهم رأي او مذهب يمتازون به عن سواهم
يقال لهم طائفة.
المسألة الثانية:
قوله تعالى: «وإن » في بداية الآية فيه دليل على ان المجتمع المسلم مجتمع آخر لا
حرب فيه ولا اقتتال، يقوم على المحبة والنصرة والتعاون وعلى العفو والمسامحة
واقالة عثرات الناس، ولهذا جاء التعبير ب «إن » في قوله تعالى «وإن طائفتان » ليدلل
على ندرة وقوع الاقتتال بين المسلمين. المسألة الثالثة: قوله تعالى «طائفتان » ولم
يقل «فرقتان » تخفيفاً للمعنى وهو التقليل، لان الطائفة دون الفرقة في عددها،
والدليل على هذا قوله تعالى في سورة التوبة «فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة.. .»
المسألة الرابعة:
قوله تعالى «ومن المؤمنين » ولم يقل «منكم » تنبيها على قبح وقوع القتال بين
المسلمين وقد جمع الله قلوبهم على الايمان، وتبعيداً لهم عنه.
المسألة الخامسة:
قوله تعالى «وان طائفتان » لها صلة بما قبلها، وهو قوله تعالى: «ان جاءكم فاسق
بنبأ » فنقل الفاسق للكلام على وجه الاغراء بين الاطراف للايقاع بينهم، هو سبب
الاقتتال بين طوائف المسلمين، ونقل في هذا تحذيراً للمسلمين وتنبيهاً لهم! فيتفطنوا
دائماً للاشاعات والاخبار التي لا دليل على صحتها، او لا يعرف مصدرها، او يُعرف
مصدرها وعداوته للاسلام واهله، فاسقاً كان او غير فاسق، فيعملوا على التثبت
من
صحتها قبل قبولها او رفضها.
المسألة السادسة:
قوله تعالى «اقتتلوا » والقياس ان يقول «اقتتلا » لانه قال «طائفتان » بالمثنى،
فذكر الفعل «اقتتلوا » بصيغة الجمع لا التثنية، لان الطائفتين في معنى القوم والناس.
المسألة السابعة:
قوله تعالى «فأصلحوا بينهما » رجع هنا الى التثنية، حملاً على اللفظ وهو «طائفتان
.»
المسألة الثامنة:
وقوله تعالى «اقتتلوا » ولم يقل «اقتتلتا » وقوله «فأصلحوا بينهما » ولم يقل
«بينهم 6 » لأنه عند الاقتتال تكون الفتنة
قائمة، وكل احد يكون فاعلا فعلا فقال اقتتلوا ،وعند الصلح تتفق كل كلمة طائفة،
والا لم يكن يتحقق الصلح، فقال بينهما ،
لكون الطائفتين حينئذ كنفسين.
المسألة التاسعة
: قوله تعالى )فأصلحوا بينهما( بالاذعان الى حكم كتاب الله، والرضى بما فيه لهما
وعليهما، وفي هذا دعوة لجعل الاصالح العشائري قائما على كتاب الله وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم، فيرضى رجل الاصلاح، والخصوم بما جاء في الكتاب والسنة من الاحكام،
ومن هذه الاحكام ان يقوم الصلح على العدل، ولهذا قال الله تعالى في نفس الاية فأصلحوا بينهما بالعدل(، ولتأكيد قيام الاصلاح
على العدل قال سبحانه مباشرة : واقسطوا ثم ختم الاية الكريمة باغراء رجال الاصلاح
بالحكم بالعدل، وانهم ان حكموا بالعدل ولم يجوروا كانوا من احباب الله عز وجل،
فقال سبحانه ان الله يحب المقسطين.
المسألة العاشرة
: وفي اللغة يقدم الفعل على الفاعل، مثل وان اقتتلت طائفتان فاصلحوا بينهما ولكن
في الاية الكريمة قال سبحانه : وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا وذلك لسببين :
1- ليتأكد معنى النكرة في ان الذي ذكرته
في المسألة الثانية، وهو ان كونهما من المسلمين نقيض الا يقع بينهما اقتتال،
وليفيد تحقيق اسناد الفعل في هذا فلا يجرؤ احد على اخراج الطوائف المقتتلة من
المسلمين عن الاسلام، وفي هذا تحذير من التكفير بغير حق، وبغير حجة بنية واضحة لا
خلاف فيها.
المسألة الحادية
عشرة: قوله تعالى )فان بغت احداهما( البغي هو:
التصدي بغير حق، والامتناع عن الصلح الموافق للصواب والحق. وجاء التعبير القرآني فان
، لان البغي غير متوقع، وهو نادر من المسلم الحق الملتزم
بحكم
الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثانية
عشرة: قوله تعالى )حتى تفيء( اي حتى ترجع الى طاعة
الله والصلح الذي امر الله به.
المسألة الثالثة عشرة:
قوله تعالى واقسطوا اي: اعدلوا من اقسط الرباعي بخلاف قسط الثلاثي الذي معناه
الجور، قال: قسط الرجل اذا جار، واقسط: اذا عدل، قال الله تعالى واما القاسطون
فكانوا لجهنم حطب.
المسألة الرابعة عشرة:
والايمان عهد بين المسلمين على المحبة ونشر المودة والسلام بينهم، فاذا ما حدث ان
نشب شجار او خصومة بين طائفتين منهم، وجب على كل المسلمين النهوض للاصلاح بينهما،
بموجب عقد الايمان الذي جمعهم الله عليه، مهما كلفهم الصلح من مشقة واذى، فكل ذلك
له اجره عند الله يوم القيامة وينبغي على الاطراف المصلحة ان يكون ميزانها نصر
الظالم بردعه عن ظلمه وان كان قويا، ونصر المظلوم برد حقه كله له وان كان ضعيفا. فنسأل الله ان
يجعلنا من اهل الصلاح والاصلاح وان يجعلنا مفاتيح خيره مغاليق شر.
من فقه القرآن
سورة الحجرات
10
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
استاذ الفقه المقارن/جامعة القدس
قوله
تعالى: )انما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين اخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون(!.
فقه
الآية وفوائدها في المسائل الآتية:
المسألة الاولى:
قوله تعالى )فأصلحوا بين اخويكم(.فيه دعوة الى الاصلاح بين الاطراف المتخاصمة من
المسلمين عبر امرين هما:
1- دعاء كل طرف من الطرفين المتنازعين الى الصلح
وفق احكام الشريعة الاسلامية، وكل صلح جرى وفق غيرهما من عادات وتقاليد وعبر في
وخالفهما، كان باطلاً ومرفوضاً.
2- ان يرضى كل مسلم عند المصالحة بحكم الله تعالى
سواء وافق حظه وهواه او لم يوافق، لأن الدين يقوم على اتباع احكامه والتسليم بها.
المسألة الثانية:
قوله تعالى )انما المؤمنون اخوة( فيها عدة فوائد وهي:
1- انها جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من
الامر بالاصلاح وفق حكم الله، والرضى به.
2- ان المؤمنين يرجعون الى اصل واحد وهو الايمان،
قال الزجاج: الدين يجمعهم فهم أخوة اذا كانوا متفقين في دينهم، فرجعوا بالاتفاق في
الدين الى اصل النسب، لانهم لآدم وحواء.
3- وبين العلماء ان تسمية المشاركة في الايمان اخوة
تشبيه بليغ، او استعارة، شبه المشاركة فيه بالمشاركة في اصل التوالد، لان كلاً
منهما اصل للبقاء، اذ التوالد منشأ الحياة، والايمان منشأ البقاء الابدي في
الجنان.
4- واذا كان المسلم يجتمع مع اخيه المسلم في اصل
التوالد والايمان، فكيف اذا جمعهم امر ثالث وهو التوالد في ارض واحدة كالشعب
الفلسطيني، أفلا يليق بهم ان يجتمعوا على المصالحة وفق احكام الاسلام الذي جمعهم
الله عليها؟!.
المسألة الثالثة:
تخصيص الاثنين بالذكر في قوله تعالى )بين اخويكم(، لاثبات وجوب الاصلاح فيما
فوقهما بطريق الاولى.
المسألة الرابعة:
واذا كان الله تعالى، اختار لنا ان يجمعنا على افضل الروابط وهي رابطة الاخوة في
الدين والحرمة، وهي رابطة اثبت من رابطة النسب والعرض والعشيرة، فرابطة الدين لا
تنقطع بمخالفة النسب، وما عداها من الروابط منقطع لا محالة، فلماذا نجهل ونعتصم
بروابط جاهلية، ومنقطعة، كالقومية والوطنية والعشائرية وهي روابط مذمومة، ذمها
الله وذمها الرسول صلى الله عليه وسلم وقال عنها «منتنة » رائحتها كريهة، ولا هي
طيبة، فما هي وجوه الخير فيها، لنتسابق على الالتفاف حولها، وهي التي تفرق ولا
تجمع.
المسألة الخامسة:
ومن واجبات الاخوة في الدين ان يترك المسلم الاضرار المادي او المعنوي بأخيه
المسلم كالحسد والتباغض والتجسس والتدابر، وفي الصحيحين عن ابي هريرة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا ولا
تحسسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله اخواناً » وفي رواية: «لا تحاسدوا ولا
تناجثوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله
اخواناً المسلم اخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا ويشير الى
صدره ثلاث مرات- بحسب امرىء من الشر ان يحقر اخاه المسلم كل المسلم على المسلم
حرام دمه وماله وعرضه .»
المسألة السادسة:
واذا اردنا ان ننزل ما اثبتناه في المسائل السابقة على مسألة «النيل من عرض الحصان
الرّزان ام المؤمنين عائشة من قبل شخص حاقد على الاسلام، نرى ان ما فعله هذا الشخص
خارج عن أخلاق الاسلام وحقوق الاخوة في الدين، بل من يطعن في صحابي او صحابية، فقد
كذّب كتاب الله الذي اثنى عليهم، وكذّب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصفهم
بأنهم خير القرون! وقد قرر علماء العقيدة الاسلامية كما جاء في العقيدة الطحاوية
«ان حب الصحابة ايمان واحسان، وبغضهم والطعن فيهم كفر ونفاق وطغيان » فإذا علمنا
هذه القاعدة من قواعد عقيدة اهل السنة والجماعة، عرفنا اين نضع كل مبغض وطاعن في
صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام رجالاً كانوا او نساءً!
المسألة السابعة:
قال القرطبي: «في هذه الاية دليل على ان البغي لا يزيل اسم الايمان، لان الله
تعالى سمّاهم اخوة مؤمنين مع كونهم باغين.
المسألة الثامنة:
قوله تعالى «لعلكم ترحمون » هنا الترجي باعتبار المخاطبين، اي: راجين ان ترحموا.
المسألة
التاسعة: قوله تعالى «واتقوا الله » امر منه سبحانه للمسلمين بأن يحافظوا على
تقواهم لله تعالى. والتقوى المطلوبة في الاية هي:
1- ان يجتمع المسلمون على رابطة الايمان والدين،
وان يتخلوا عن كل رابطة غيرها، ولهذا ابتدأت الاية الكريمة ب «إنما » وهي تفيد
الحصر، فكأنه سبحانه يقول: «لا اخوة...الا بين المؤمنين، فاتقوا الله وحافظوا
عليها ايها المؤمنون.
2- ان يظل المسلمون متأهبين للاصلاح بين المتخاصمين
منهم، للمحافظة على أخوة الدين، وان يتحاكموا الى شرع الله ويرضوا به وافق هواهم
ومصلحتهم ام لم يوافق، وهذا من أعظم التقوى. فلا ينبغي الهروب من كل اختلاف بين
المسلمين او السكوت عليه، لانه حينئذ لا يقام حق ولا يبطل باطل.
اللهم اهدنا واهد بنا يا رب العالمين
من فقه القرآن
سورة الحجرات
(5)
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي خطيب المسجد الأقصى المبارك
استاذ الفقه المقارن/ جامعة القدس
قوله
تعالى: «ان الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو انهم صبروا حتى
تخرج اليهم لكان خيرا لهم، والله غفور رحيم .» فقه هاتين الايتين الكريمتين
وفوائدهما في المسائل الآتية:
>
المسألة الاولى: اختلف في سبب نزولها، منها ما رواه الترمذي عن البراء
بن
عازب، وهو مروي ايضا عن مجاهد وغيره انها نزلت في اعراب بني
تميم،
قدم وفد منهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلوا المسجد،
ونادوا
النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته ان اخرج الينا، فان
مدحنا
زين، وذمنا شين، وكانوا سبعين رجلا قدموا لفداء ذراري لهم، وكان
النبي
صلى الله عليه وسلم نام للقائلة، وروي ان الذي نادى الاقرع حجرة
بن
حابس، وانه القائل ان مدحي زين، وذمي شين، فقال النبي صلى الله
عليه
وسلم: «ذاك الله .»
>
المسألة الثانية: الحجرات جمع حجرة، وهي الرقعة من الارض المحجورة
بحائط
غوط عليها.
>
المسألة الثالثة: النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيل في حجرة واحدة،
وجمعت
الحجرة الى حجرات، اجلالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله
تعالى
«من وراء الحجرات » كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه،
وقد
ازدادت الكناية بايقاع الحجرات معرفة بالالف واللام دون الاضافة،
وفي
ذلك من حسن الاداب ما لا يخفى.
>
المسألة الرابعة: وفي ورود الآية على هذا النمط بلفظ الحجرات تسجيل
على
الصائحين من ورائها بالسفه والجهل.
>
المسألة الخامسة: وفي الآية اشارة الى ترك الادب من وجوه وهي:
-
الاول: النداء فان نداء الرجل الكبير قبيح، بل الادب الحضور بين
يديه،
وعرض الحاجة اليه.
-
الثاني: النداء من وراء الحجرات، يعني انه يريد من المنادى عليه
حضوره
اليه، وهي تتنافى مع الادب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
-
الثالث: الحجرات تدل على ان النبي صلى الله عليه وسلم كان في موطن
خلوته،
ومن الادب عدم المجيء اليه في هذا الوقت، وقت القيلولة.
>
المسألة السادسة: قوله تعالى «من وراء » الوراء كلمة من الاضداد، فالمراد
هنا
اما الخلف واما القدام.
>
المسألة السابعة: قوله تعالى «اكثرهم لا يعقلون » اي النداء الصادر منهم
لم
يكن مقرونا بحسن الادب، كانوا فيه خارجين عن درجة من يعقل، وكان
نداؤهم
كصياح، صدر من بعض الحيوان.
>
المسألة الثامنة: وقوله تعالى «اكثرهم لا يعقلون .»
ايضا
قال العماد: فيه وجهان، الاول: لا يعلمون فعبر عن العلم بالعقل،
لانه
من نتائجه، والثاني: لا يعقلون افعال العقلاء، لتهورهم وقلة اناتهم،
وهذا
قول محتمل.
>
المسألة التاسعة: قوله تعالى «اكثرهم » فيه وجهان، الاول: ان العرب
تذكر
الاكثر وتريد الاقل، وانما تأتي بالاكثر احترازا عن الكذب، واحتياطا
في
الكلام، لان الكذب مما يحبط به عمل الانسان في بعض الاشياء، فيقول
الاكثر
وفي اعتقاده الكل، ثم ان الله تعالى مع احاطة علمه بالامور، اتى
بما
يتناسب كلامهم، وفيه اشارة لطيفة، وهي ان الله تعالى يقول: انا مع
احاطة
علمي بكل شيء، جريت على عادتكم، استحسانا لتلك العادة وهي
الاحتراز
عن الكذب، فلا تتركوها، واجعلوا اختياري ذلك في كلامي، دليلا
قاطعا
على رضائي بذلك.
والثاني:
ان يكون المراد انهم في اكثر احوالهم لا يعقلون، ويحتمل وجها
ثالثا:
وهو ان يقال: لعل منهم من رجع عن تلك الاهواء، ومن استمر على
تلك
العادة الرديئة فقال «اكثرهم » اخراجا لمن ندم منهم عنها.
>
المسألة العاشرة: قوله تعالى: «ولو انهم صبروا » ا: لو ثبت صبرهم،
والصبر:
حبس النفس عن ان تنازع الى هواها، وقيل: الصبر مرّ لا يتجرعه
الا
حر .»
>
المسألة الحادية عشرة: قوله تعالى «حتى تخرج اليهم » يفيد انه صلى
الله
عليه وسلم لو خرج، ولم يكن خروجه اليهم ولأجلهم، للزمهم ان يصبروا
الى
ان يعلموا ان خروجه اليهم.
>
المسألة الثانية عشرة: قوله تعالى «ان الله غفور رحيم » اي: بليغ
الغفران
والرحمة، فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء ان تابوا وانابوا،
وفي
هذا بشرى لمن يتجرأ على شتم الذات الالهية والدين والنبي والكعبة
والقرآن،
ان يتوبوا قبل ان يريهم الله نقمته وعذابه في الدنيا قبل الآخرة،
وفيه
بشرى لكل مسلم ومسلمة، يقدم بين يدي الله ورسوله، ويسيء الادب
معهما،
بمخالفة اوامرها، وانتهاك المحارم.
فهلموا
الى مغفرة الله ايها الناس.
من فقه القرآن
سورة الحجرات 12 والاخيرة
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
أستاذ الفقه المقارن/جامعة القدس
قوله
تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى ان يكونوا خيرا منهم ولانساء
من نساء عسى ان يكنّ خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالالقاب .. الخ).
فقه الاية الكريمة وفوائدها في المسائل الاتية:
المسألة الاولى:
اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الاية، فقال ابن عباس نزلت في ثابت بن قيس بن شماس
.. تخطى رقاب الناس حتى يجلس بجوار النبي صلى الله عليه وسلم، لانه كان في أذنه
وقر، فلما انتهى الى النبي صلى الله عليه وسلم كان بينه وبينه رجل، فقال له ثابت:
تفسح، فقال له الرجل: قد وجدت مجلسا فأجلس! فجلس ثابت من خلفه مغضبا ثم قال: من
هذا! قالوا: فلان، فقال ثابت: ابن فلانه! يعيّره بأمه في الجاهلية فأستحيا الرجل،
فنزلت الاية الكريمة. وقال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذين استهزأوا بفقراء
الصحابة مثل عمار وخباب وغيرهما، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا
منهم. وقيل: نزلت في عكرمة بن ابي جهل حين قدم المدينة مسلما، وكان المسلمون اذا
رأوه قالوا: ابن فرعون هذه الامة »، فشكا ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فنزلت الاية.
المسألة الثانية:
وأيا كان سبب النزول، فانه يستفاد من اسباب النزول السابقة الفوائد الاتية:
1- كراهية تخطي رقاب الناس في المجالس، وبخاصة في
المساجد الا لضرورة.
2- من سبق الى مجلس يجلس به، فهو احق به من غيره.
3-
لايجوز سخرية مسلم من
مسلم، ايا كان حاله، فلا يسخر الغني من الفقير، ولا المعافى من الامراض من المريض،
ولا من ستر الله عليه ذنوبه ممن كشفه الله ، فلعل اظهار ذنوبه في الدنيا خير له في
الاخرة.
المسألة الثالثة:
وقال القرطبي عند هذه الاية: « وبالجملة فينبغي الا يجترىء احدا على احد
بالاستهزاء بما يقتحمه بعينه اذا رآه رث الحال، او ذا عاهة في بدنه، او غير لبيق
(حاذق) في محادثاته، فلعله اخلص ضميرا، وانقى قلبا ممن هو على ضد صفته، فيظلم نفسه
بتحقير من وقّره الله، والاستهزاء بمن عظّمه الله. ولقد بلغ بالسلف الافراط في
توقّيهم وتصوّنهم من ذلك ان قال عمر بن شرحبيل: لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه
لخشيت ان أصنع مثل الذي صنع. وعن عبد الله بن مسعود: البلاء موكّل بالقول، لو سخرت
من كلب لخشيت ان احوّل كلبا.
المسألة الرابعة:
قوله تعالى (يسخر) اي: يستهزىء، فالسخرية الاستهزاء، قال الاخفش: سخرت منه وسخرت
به، وضحكت منه وضحكت به، وهزئت منه وهزئت به، كلُّ يقال، والاسم السخرية.
المسألة الخامسة:
قوله تعالى (قوم)، تطلق على الرجال خاصة، واحده في المعنى رجل، وقيل: جمع لا واحد
له من لفظه .. ومما يدل على ان «قوم » للمذكرين خاصة، قول زهير: وما أدري وسوف
أخال أدري أقوم آل حصن ام نساء ويسمى الرجال «قوما » لانهم قوّامون على النساء،
ولأنهم يقومون الى الشدائد دون النساء قال القرطبي: «وقيل: انه جمع قائم، ثم
استعمل في كل جماعة وان لم يكونوا قائمين. وقد يدخل في القوم النساء مجازا.
المسألة السادسة:
قوله تعالى خيرا منهم لها معنيان، الاول: خيرا منهم عند الله، والثاني: اي خيرا
منهم معتقدا وأسلم باطنا. وفي هذا تأديب لكل مسلم الا يرى نفسه افضل من غيره، وان
كان اعظم جسما، او اجمل وجها، او اكثر مالا وولدا وجاها، فكل ذلك مع فساد المعتقد
والباطن لا يساوي شيئا، بل هو وبال على صاحبه يوم القيامة، كما قال سبحانه في سورة
الكهف عن الكافرين (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) وقد ذكر الرسول صلى الله عليه
وسلم عند هذه الاية انه يأتي يوم القيامة الرجل السمين الطويل لا يزن عند الله
شيئا. ومعلوم ان ميزان التفاضل عند الله هو التقوى (ان اكرمكم عند الله اتقاكم) والاعجاب
بالنفس والغرور بها، هو مرض ينخر في قلب صاحبه، عليه أن يعالج بأن يتذكر عظمة الله
وعجيب صنعه، وحكمته في اختلاف الناس طولا ولونا ونسبا ورزقا وغير ذلك. نسأل الله
التواضع واحترام الآخرين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق