من فقه القرآن
الوصايا العشر (3)
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
إمام وخطيب المسجد الأقصى المبارك
الأمين العام لهيئة العلماء والدعاة ببيت المقدس
قال الله تعالى :" قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم وبالوالدين إحسانا...."سورة الأنعام :151
فقه المقطع القرآني وفوائده في المسائل الآتية:
المسألة الأولى: قوله تعالى " وبالوالدين إحسانا " معطوف على جملة "ألا تشركوا به شيئا" ، وفائدة العطف تظهر في الآتي:
أولا: لأن إيجاد الإنسان من عدم أعظم نعم الله تعالى على العبد فوجب توحيده التوحيد الخالص من الشرك شكرا على نعمة الإيجاد التي هي أساس النعم ، ولما كان الأب والأم سببين في إيجاد الابن اقتضى العطف ليقوم الإبن بنعمة شكر أبويه اللذين كانا سببين في إيجاده .
ثانيا: لأن الله تعالى يستحق العبادة والشكر والحمد لتربيته العباد بنعمه الجمّة التي لا تعد ولا تحصى كما قال سبحانه :" وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا أحصي ثناء عليك" ، فاقتضى العطف لأن الأبوين يحفظان الولد بحضانته وتربيته والشفقة عليك وتدبير شؤؤنه كلها فوجب على هذا الولد أن يقابل الإحسان بالإحسان ، كما وجب على العبد أن يقابل تربية الله له بالنعم بالعبادة والتوحيد.
ثالثا: لما كان أكثر العرب في الجاهلية يشركون بالله تعالى في ربوبيته وفي ألوهيته وفي أسمائه وصفاته ، ولما كانوا يتصفون بالجلافة والغلظة مع آبائهم فلا يوقرون أبا أو أما إذا ضعفا أو كبرا ، عطف الله الأمر بالإحسان إلى الوالدين بالنهي عن الشرك به .
رابعا: لبين الله تعالى كما أن الشرك به كبيرة من الكبائر ومن أعظم الذنوب فإن الإساءة إلى الوالدين تضاهي الشرك بالله في عظم الذنب والمعصية وذلك ليكون أدعى إلى اجتنابه .
المسألة الثانية: قوله سبحانه " إحسانا" مصدر ناب مناب الفعل ، وعليه يكون المعنى: أحسنوا بالوالدين إحسانا ، وفي هذا نكتة بيانية وهي أن الأمر بالإحسان إلى الوالدين يفيد النهي عن ضده وهو الإساءة إليهما فكانت الإساءة إلى الوالدين هي المقصودة بالتحريم ، قال المفسرون:" وإنما عدل عن الإساءة غلى الأمر بالإحسان اعتناء بالوالدين لأن الله سبحانه أراد برهما ، وبرهما إحسان ، والأمر بالإحسان يتضمن النهي عن الإساءة إليهما بطريق فحوى الخطاب" .
المسألة الثالثة: وكما ترى أخي القارىء الكريم فقد ذكرت الآية الإحسان إلى الوالدين ضمن المحرمات لأنه كما أشرت سابقا الأمر بالشيء نهي عن ضده ، قال أبو السعود في تفسيره:" والسر في ذلك المبالغة والدلالة على أن ترك الإساءة إليهما غير كاف في قضاء حقوقهما " .
المسألة الرابعة: والوصية الثانية من الوصايا العشر هي الوصية بالوالدين ،والإحسان إلى الوالدين أيها الابن الحبيب لا يكون إحسانا إلا إذا اتصف بصفات وهي:
أولا : أن يكون إحسانا شاملا لكل إحسان فإن كان إحسانا ناقصا كان الولد مسيئا لأبويه ،فإحسان الأبوين إلى الولد كان تاما وشاملا ويدل على هذا أن الولد كان لا يستقل بشؤون نفسه فكان إحسان أبويه له كاملا حينئذ ، والإحسان يقابل بالإحسان فمن أنقص منه شيئا كان مسيئا.
ثانيا: ألا يتوانى الولد أو يتكاسل أو يبخل بجهده في بذل إحسانه لوالديه فإن فعل شيئا من ذلك كان إحسانه لهما ناقصا .
ثالثا:أن يترك كل إساءة لوالديه مهما ظنها صغيرة فإن الله تعالى يقول :" ولا تقل لهما أف" وهي أقل الإساءات وهو منهي عنها ،فإن أساء الولد لوالديه أي إساءة كانت لم يكن محسنا إليهما.
رابعا: ولن تكون محسنا حقا لأبويك حتى يكون الإحسان منك إليهما فطرة أعني أن يكون الإحسان منك إلى أبويك سجيّة وخلقا فيك لا تكلف فيه ، فإن كان فيه تكلف فقد يحصل منك من غير رضا ولا نيّة فكيف تؤجر عليه حينئذ وكيف تكون طائعا لله في والديك بالإحسان إليهما وأنت تحسن إليهما مكرها ؟؟؟
المسألة الخامسة: والإحسان في لغة العرب يتعدى بحرفين الأول: الباء تقول: أحسن بعلي مثلا ، ويتعدى بإلى تقول: أحسن إلى عليّ، وتعدية الإحسان بالباء أبلغ في لغة العرب ، وقد تعدى في الآية الكريمة بالباء لسببين ،الأول : لأنه أبلغ كما قلنا ، والثاني لأنه أليق بالأبوين لأن الباء للإلصاق ، فأبواك اللذان تحسن بهما هما من يتصل بهما برك و تلتصق بهما مباشرة من غير انفصال عنك ، قال محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار :" وَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) وَلَوْ غَيْرَ مُكَرَّرٍ لَكَفَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِ عِنَايَةِ الشَّرْعِ بِأَمْرِ الْوَالِدَيْنِ، بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّيغَةُ وَالتَّعْدِيَةُ، فَكَيْفَ وَقَدْ قَرَنَهُ بِعِبَادَتِهِ وَجَعَلَهُ ثَانِيهَا فِي الْوَصَايَا، وَأَكَّدَهُ بِمَا أَكَّدَهُ بِهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ فِي وَصِيَّةِ سُورَةِ لُقْمَانَ فَقَالَ: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) .
المسألة السادسة: ويستفاد مما ذكرناه آنفا عدة فوائد أهمها:
أولا: أن الواجب على الأبوين وبخاصة الأب أن يربيا ابنهما على حبهما فيكبر طائعا لهما ومحسنا إليهما عن حب ، وما نراه من قسوة بعض الآباء على الأبناء في الصغر بحجة أن لهما عليه حق الطاعة غير مقبول لا شرعا ولا عرفا ، وعلى سبيل المثال بعض الآباء يحبس ابنه في البيت فلا يسمح له بالخروج إلا إلى المدرسة ، وبعض النساء تمنع الأولاد من شرب الشاي وكافة المشروبات خوفا عليهم من الأمراض ، وبعض الآباء يضرب ابنه ضربا مبرحا بذريعة أنه يريد تربيته ،وهذا كله يجعل الولد عاقا في كبره والمسؤولية وقتئذ على الأبوين لا على الولد.
ثانيا: على الأولاد أن يستحضروا في نفوسهم وفي قلوبهم وفي واقعهم أن الإحسان إلى الأبوين عبادة يؤجرون عليها إن هم قاموا بها خير قيام ، ويعاقبون على تركها إن هم قصروا فيها ، فكما أن توحيد الله تعالى وعدم الشرك به من أعظم العبادات فكذلك الإحسان إلى الوالدين .
ثالثا : مهما أحسن الولد إلى أبويه فإحسانه لهما لا يكافىء إحسانهما إليه ، وإذا علم الولد هذا المر وجب عليه ألا يتوانى أبدا في الإحسان إلى أبويه.
رابعا: لا تقدم أيها الولد طاعة زوجتك على طاعة أمك أو أبيك إذا كان في ذلك إيذاء لهما ، وعلم زوجتك حب أبويك والإحسان إليهما من غير إكراه فذاك أدعى إلى استجابتها إلى الإحسان إليهما والرفق بهما ، واعلم أنك أنت المأمور بالإحسان إلى أبويك وأن زوجتك مأمورة بالإحسان إليك ولا يتم ذلك إلا بالإحسان إلى أبويك ، وكما تريد من زوجتك الإحسان إلى أبويك فأحسن إلى أبويها ، وبدل أن يكون لك أو لزوجتك أما واحدة أو أبا واحدا ، فاجعلاهما أبوين أو أمّين حتى يعين كل منكما صاحبه على بر أبويه ، ومن الإحسان إلى أمّك أيها الولد إذا كنت متزوجا أن تعرّفها أنك أنت القوّام على زوجتك لا أمك ، وأنك أنت المؤول عن زوجتك لا هي ، فلكل منزلة و مقام لا ينبغي تجاوزه داخل الأسرة الممتدة ليظل الإحسان يزين كل فرد فيها ..
والحمد لله رب العالمين
0 التعليقات:
إرسال تعليق