من فقه القرآن
تفسير سورة الإسراء : (2)
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد
علي
إمام وخطيب المسجد الأقصى المبارك
الأمين العام لهيئة العلماء والدعاة ببيت المقدس
www.algantan.com
قال الله تعالى :" سبحان
الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله..."
فقه هذا المقطع القرآني
وفوائده في المسائل الآتية:
المسألة الأولى : افتتح الله
تعالى سورة الإسراء بقوله "سبحان" ، وهو اسم مصدر ولم يفتتح به أي سورة
أخرى من سور القرآن الكريم ، وفي هذا
استثارة للسامعين من المشركين من قريش وغيرهم على أن ما بعد هذا التسبيح سيكون إخبارا عن أمر
عظيم فوق مقدورهم ، وأن عليهم أن يذعنوا لعظمة الله وقدرته على كل شيء ، وأن
ينتهوا عن غيهم وجحودهم بإنكار أن القرآن من عند الله سبحانه ، وأن يؤمنوا أن
محمدا هو رسول من عنده سبحانه لهم ولكل الخلق من الثقلين ،وأن من كان هذا شأنه وجب
أن يعظّم وينزّه عن كل ما لا يليق به من صفات النقص ، فافتتاح السورة باسم المصدر
" سبحان" دال على التعظيم لله تعالى ثم يدل على تنزيهه عزّ وجلّ عن كل
صفة لا تليفق به سبحانه ، واسم المصدر هنا دال على التعظيم في الغالب لدلالة ما
بعده عليه وهو الإسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى
المسجد القصى في جزء بسيط من ليلة ...
المسألة الثانية :
و"سبحان" اسم غير متمكن فلا
ينصرف لآنه صار علما لأحد معنيين ،الأول وهو الغالب : التعظيم لدلالة ما بعده عليه
، والثاني التنزيه وذلك لإنكار المشركين أن الله أسرى بنبيه صلى الله عليه وسلم ، ففيه رد لمطاعن المشركين هذه ، وأن من كانت صفته
العظمة والقدرة على كل شيء وجب أن يعبد وأن لا يشرك به غيره .
المسألة الثالثة: والتعظيم لله والتنزيه له عن النقائص مقامان من أول وأرفع مقامات العبودية لله تعالى ، وإذا كانت العبودية لله سبحانه مجموعة في
كلمتين وكل كلمة مكونة من حرفين وهما حب وذل ، فإن من عظّم الله ونزهه أحبه وذل له
باتباع كل ما أمر وبالانتهاء عن كل ما نهى عنه ، وهذه هي الحكمة من خلق الله للإنس
والجن كما أخبر الله بذلك فقال سبحانه في سورة الذاريات " وما خلقت الجن
والإنس إلا ليعبدون" .
المسألة الثالثة : و"سبحان"
لا تكون إلا في الموضع الذي يكون فيه
العجب والتنزيه...وتقدير الآية هنا
تقديران :الأول: عجب من الذي أسرى بعبده ليلا، والثاني : تنزيه لله عن كل نقص وصفه
به المشركون في مكة خاصة وأينما كانوا حين نسبوا له صفة العجز والقدرة عن الإسراء
بالنبي صلى لله عليه وسلم في جزء من ليلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
المسألة الرابعة : والتسبيح من السبح وهو الجري إلى أبعد الغايات
...فهي كلمة تقال للذهاب والإبعاد نقول فرس سابح إذا كان ركضه سريعا لا
يدركه غيره من الخيل ، فالمسلم حين يقول سبحان الله أو حين يسبح الله تعالى يعني :
ينزهه عن كل نقص ، ويبعده عن صفات المخلوقين ، ويجلّه عما وصفه به الكافرون ، والتسبيح
في اللغة يطلق على أربعة مواضع وهي: الأول الصلاة (فلولا أنه كان من
المسبحين) يعني من المصلين ، والثاني
الاستثناء (ألم أقل لكم لولا تسبحون) أي تستثنون ، والثالث التنزيه
وهنا تنزيه الله عن كل سوء ونقص، والرابع النور ففى الحديث
:أن الله حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات
وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " .
المسألة الخامسة: ومن الحكم الملحوظة لافتتاح الله تعالى السورة
باسم المصدر " سبحان" للتأكيد على أن الإسراء كان بروح النبي صلى الله عليه وسلم وبجسده جميعا وهو ما عليه أهل السنّة والجماعة ، وهو الذي دل
عليه التسبيح فلو كان الإسراء بالروح لما كان داعيا إلى إنكاره ، ولما تتطلب أن
يذكره الله في القرآن في مقام التعجيب والتنزيه له سبحانه .
المسألة السادسة " قوله
تعالى " الذي" وهو اسم موصول ، ولم يأت باسمه عزّ وجل ّ هنا وهو الله
فلم يقل سبحان الله أسرى بعبده ، ولم يأت بصفة من
صفاته هنا كأن يقول سبحان القادر أسرى بعبده ، فخًص الاسم الموصول هنا بدل
اسمه أو صفة من صفاته لحكمة وهي لأن صلة الموصول وصف لاسم معرفة محذوف وهو الله
، وأقيم اﻻسم الموصول مكانه لدلالة
صلة الموصول عليه من التعجب لهذا الحدث المعجز وانتشار خبره بين قريش ما بين مؤمن
مصدق به ومشرك مكذب له ، فهذا الحدث المعجز وهو معجزة الإسراء في جزء من
ليلة لا يقدر عليه إلا الله فاستغنى عن ذكره باسمه لهذا السبب.
المسألة السابعة قوله تعالى "أسرى " ،ولم يقل
"سرى " أي عدّاها بالهمزة ليدل
على أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس هو فاعل الإسراء بل الله هو الذي أسرى به ،
وأما تعدية عبده بالباء فقال "بعبده" ولم يقل بنبيه أو بحبيبه أو غير ذلك لكي لا تضل أمته فيه كما ضلت النصارى بعيسى
عليه السلام ، ولآن الوصف بالعبودية أشرف
المقامات ..
المسألة الثامنة: قوله تعالى "ليلا" مع أن الإسراء لا
يكون إلا في الليل ،للدلالة على أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان في
جزء من الليل وليس في الليل كله ، وحتى نعلم مقدار الإسراء بالنبي صلى الله عليه
وسلم لأنه لو لم يذكر ليلا لاحتمل أن يكون الإسراء في عدة ليال، ولأن الليل له شأن
عند أهل الحب وأهل العبادة. فيه يدنو
الحبيب من حبيبه ،وهذا المقام لا ينبغي أن يكون فيه تأثير لمخلوق بحال فسرى بنفسه
وسرى بروحه ،وفيه أيضا تأكيد للإسراء
بالروح والجسد جميعا.
المسألة التاسعة: قوله تعالى "المسجد الأقصى سمّاه بهذا
الإسم لأنه أبعد مسجد من أهل مكة في
الأرض يعظم للزيارة.، ولأنه بعيد عن الأقذار والخبائث، ولأنه -قيل- وسط الدنيا لا
يزيد شيئا ولا ينقص، ولهذا يقال إنه أقرب مكان في الأرض إلى السماء ، وقال
"باركنا حوله ولم يقل فيه ولم يذكر
المباركة في المسجد الحرام؟ لأن البركة في المسجدين الأقصى والحرام موجودة فيهما لا حاجة لذكرها .(يتبع
الحلقة القادمة) .....................والحمد لله رب العالمين
0 التعليقات:
إرسال تعليق