من فقه القرآن
تفسير سورة الإسراء : (4)
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
إمام وخطيب المسجد الأقصى المبارك
الأمين العام لهيئة العلماء والدعاة ببيت المقدس
www.algantan.com
قال الله تعالى :" وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من جملنا مع نوح إنه كان عبد ا شكورا"
فقه الآيتين وفوائدهما في المسائل الآتية:
المسألة الأولى :يتفق المسجد الحرام مع المسجد الأقصى في كونهما مباركا فيهما ومباركا حولهما ، ويفترقان في أمور أهمها : أن المسجد الحرام هو حرم أي يحرم فيه الإقتتال كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم :إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، وأما المسجد الأقصى فهو ليس حرما بل هو أرض حرب وقتال بين المسلمين وغيرهم إلى أن تقوم الساعة والأدلة على ذلك كثيرة منها حديث :" لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم.... حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" ، وأمر الله هو قيام الساعة ، وأيضا في المسجد الحرام يطاف بالكعبة ويقبل الحجر الأسود أما في المسجد الأقصى فلا مكان للطواف أو التبرك بأي شيء فيه ، ولهذا ما يفعله الجهال من الطواف بالصخرة المشرفة أو التمسح ببعض أجزائها هو بدعة منكرة ، وقد قال ابن القيم في الأحاديث والآثار الواردة في فضائل الصخرة : "كل حديث في الصخرة كذب مفترى" ، وقد زار الصحابة والتابعون المسجد الأقصى ولم يتمسحوا أو يطوفوا بشيء منه .
المسألة الثانية:قول الله سبحانه وتعالى :"الذي باركنا حوله حوله " ، فيه فوائد الأولى: جاء الفعل "باركنا" بالماضي ليدل على الثبات والاستقرار والتحقق من المباركة، وذلك كمثل قوله سبحانه في سورة الفاتحة"مالك يوم الدين" للدلالة على تحقق يوم القيامة مع أنه ليس حاصل الآن،الفائدة الثانية:الفعل باركنا غير مقيد ولا محدد فالبركة شاملة لكل أنواع البركة الدينية والدنيوية ، والبركة الدنيوية تشمل أيضا كل أنواعها من بركة تاريخية وبركة اقتصادية وبركة اجتماعية وبركة أخلاقية وبركة مستقبلية للمسجد الأقصى ببقائه وعودته إلى مجد المسلمين وحكمهم،
الفائدة الثالثة :الفعل باركنا مسند إلى الله تعالى وعلى هذا فبركات المسجد الأقصى وما حوله من بيت المقدس هي بركات ظاهرة لا ريب فيها .
المسألة الثالثة:قوله تعالى"وآتينا موسى الكتاب" ، يوجد مناسبة بين هذه الآية والآية التي قبلها وهذه المناسبة تدل على فضل النبي صلى الله عليه وسلم على موسى خاصة وعلى غيره من الأنبياء وذلك من عدة وجوه ، الوجه الأول:أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج به إلى السماء وكلمه الله ربه فيها ، أما موسى عليه السلام فكلمه ربه على الأرض ، الوجه الثاني:أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به إلى بيت المقدس واستضافه الله فيها ثم عرج به منها إلى السماوات العلى ، بينما موسى عليه السلام كلمه ربه في الطور، الوجه الثالث:النبي صلى الله عليه وسلم أسرى الله به إلى ربه وعرج به إلى السماوات العلى ، أما موسى عليه السلام هو الذي جاء بنفسه ليكلمه الله "ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه" ، الوجه الرابع:أن التوراة خاصة ببني إسرائيل وأما القرآن فهو عام للثقلين الإنس والجن فهو حجة الله على عباده جميعا بما فيهم اليهود الذين كانت التوراة خاصة بهم ، الوجه الخامس:أن التوراة نسخت بالقرآن وأما القرآن الكريم فهو آخر الكتب السماوية وهو الكتاب الذي يجب على الناس جميعا أن يؤمنوا به ويرجعوا إليه ، الوجه السادس:أمة محمد صلى الله عليه وسلم مهتدية متبعة لما جاء به صلى الله عليه وسلم لم تبدل ولم تحرف أما اليهود فقد حذرهم الله تعالى بسبب تنكبهم تعاليهم التوراة وبسبب تحريفهم لها ولهذا ختم الله الآية الثانية من سورة الإسراء مخاطبا بني إسرائيل قائلا لهم ألا تتخذوا من دوني وكيلا".
المسألة الثالثة:قوله تعالى"وآتينا موسى الكتاب فيه فوائد ،الفائدة الأولى :الكتاب هو التوراة ، وآتينا يعني أوحينا ، والتعبير بالإيتاء آكد حيث أن الايتاء هو الإعطاء ، فالله سبحانه أعطى موسى التوراة لتكون مصدر هداية لمن يتبعها من بني إسرائيل مع أن الأصل أن يتبعها بنو إسرائيل كلهم ويتكون مصدر هداية لهم جميعا لأنها نزلت خاصة بهم ولهدايتهم .
المسألة الرابعة:علاقة "وآتينا موسى الكتاب" وهي إعطاء موسى التوراة بالاسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم هي أن الإسراء كان ليلا ونزول التوراة كان على موسى ليلا ، وفي هذا إشارة إلى أن أقرب ما يكون العبد إلى ربه في اليوم هو في ليله لهذا جاءت أحاديث شريفة تحث المسلم على قيام الليل وعلى الاستغفار والدعاء وقت السحر خاصة وفي كل وقت من أوقات الليل ، فالليل هو الغنيمة الباردة للمسلم الذي يريد اللقاء بربه عز وجل .
المسألة الخامسة:قوله تعالى "وكيلا " : يعني شريكا وربا فنهاهم الله سبحانه وتعالى أن يعبدوا غيره وأن يتخذوا لهم ربا سواه ، ولهذا ختم الآية بقوله "ألا تتخذوا من دوني وكيلا" .
المسألة السادسة:قوله تعالى:"هدى لبني إسرائيل" ،قال الماتريدي في تفسيره :" كل كتب الله هدى لمن استهدى، ورشد لما استرشد ، وبيان لمن استوضح ، لأنها دعت إلى ثلاث خصال : إلى معالي الأمور وإلى مكارم الأخلاق وصالح الأعمال ،ونهت عن ثلاث: مساوي الأعمال ، وعن سفاسف الأمور، ودنائة الأخلاق ورداءتها .
المسألة السابعة: قوله تعالى :"ذرية من حملنا مع نوح" فيه فوائد ، الفائدة الأولى: ذرية منصوبة إما على النداء ويكون المعنى يا ذرية من حملنا مع نوح ، وإما أن تكون منصوبة على الاختصاص على المدح ، يعني أنتم من ذرية من حملنا مع نوح الشاكر، فكونوا مثله عابدين شاكرين لله سبحانه وتعالى.
المسألة الثامنة:قوله" ذرية " يدخل فيها الأنبياء أيضا وفيه إشارة إلى أن الأنبياء بشر لمن أنكر النبوة لكونها من البشر كما فعلت قريش حين أنكرت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن الآية تقول : الأنبياء ذرية من حملنا مع نوح فكيف تخالفون هؤلاء الأنبياء وتشركون بالله عز وجل ؟
المسألة التاسعة :بنو إسرائيل ليسوا من ذرية نوح كما زعمت التوارة أن الله أنجا مع نوح في السفينة أبناءه سام ويافث وحام ، فسام أبو العرب واليهود ، وحام أبو الحبش ، ويافث أبو الروم ، فهذا الكلام ورد فقط في التوراة والتوراة تم تحريفها وتزييفها وليس عليه دليل من القرآن الكريم ولا من التاريخ الصحيح الثابت ،ثم إن الله سبحانه وتعالى قال "ذرية من حملنا مع نوح" ، فالذرية هنا ليست ذرية نوح وإنما من كان معه في السفينة ، وليس هناك ما يدل على أن من حمل مع نوح في السفينة هم أبناؤه .
المسألة العاشرة : قوله تعالى " لبني إسرائيل"، إسرائيل هو يعقوب عليه السلام ، ومعناه في اللغة العربية عبد الله ،وأما بنو إسرائيل فهم أبناء يعقوب وأبناؤهم من بعدهم ، فإذا قلنا (بنو إسرائيل) نريد الجنس والقومية ، وإذا قلنا عنهم يهود أردنا الديانة .
المسألة الحادية عشرة :قوله تعالى "عبدا شكورا" ورد في التفاسير معنيان لشكر نوح المعنى الأول : أنه كان إذا أكل طعاما أو شرب أو لبس ثوبا حمد الله أو حصلت له نعمه حمد الله ، والمعنى الثاني قاله يحيى بن سلام وهو: أن عامة ما في القرآن في تفسير الشكور هو المؤمن، فالشكور هو الذي يبتغى مرضاة ربه ويجتنب مساخطه ، فهو المؤمن كما في قول يحيى بن سلام وهو المطيع لله عز وجل ، فنوح عليه الصلاة والسلام كان شكورا بهذين المعنيين .
المسألة الثانية عشرة: والشكر في اللغة هو الظهور يقال دابة شكور إذا ظهر عليه السمن من فوق ما تعطى من العلف ، والشكر حقيقته الثناء على المحسن بمعروف وهو خلاف الكفران ، فأنت أيها العبد مهما عبدت الله تعالى فلن توفيه حقه في العبادة لأن ما يظهر عليك من نعم وهي كثيرة لا تعد ولا تحصى ، تماما كمن يسمن على قلة أكله وشربه .
والحمد لله رب العالمين
0 التعليقات:
إرسال تعليق