من فقه القرآن
تفسير سورة الإسراء (11)
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
إمام وخطيب المسجد الأقصى المبارك
الأمين العام لهيئة العلماء والدعاة بيت المقدس
www.algantan.com
قال الله تعالى:
" وَكُلَّ
إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ
وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ
عَلَيْكَ حَسِيباً مَنْ اهْتَدَى
فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولاً"
فقه الآيات الكريمات وفوائدها في المسائل الآتية:
المسألة الأولى:هذه
الآيات الكريمات بينت بعض القواعد التي تقوم عليها محاسبة الله للعباد يوم القيامة
، وهذه القواعد هي : القاعدة الأولى :أن الله يوم القيامة يحكم بين العباد
بالعدل,ويوفي العباد أجورهم غير منقوصة, فهو سبحانه أعدل العادلين وأحكم الحاكمين
، قال عن نفسه : " إِنَّ
اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ
حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا " ، وفي الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت
الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" , ومن عدل الله بين عباده
يوم القيامة وكرمه الزيادة والعطاء لمن آمن
وعمل صالحا كما قال في سورة النبأ:"
جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَابا " ، فالله يجزي المحسن بإحسانه
ثم يزيده في العطاء ولا يبخسه من عمله شيئا ,وهذه القاعدة تظهر في الآية الكريمة
عند قوله تعالى:"وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه" ، فكل إنسان يحاسب
بالعدل على ما قدم من أعمال خيرها وشرها. القاعدة الثانية:أن الله يجازي عباده يوم
القيامة بأعمالهم التي عملوها هم,ولا يؤاخذهم بأعمال غيرهم وأوزارهم ,ويظهر هذا في
قوله تعالى:" وَلَا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ" ، أي:لا يؤخذ العبد بذنب
غيره,وقال الله أيضا :" وَأَنْ
لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى" . القاعدة الثالثة:أن الله يطلع العباد على ما عملوه في الحياة الدنيا
من خير أو شر,كما قال سبحانه: " وَكُلَّ
إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ
وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً "،
وكما قال في سورة,آل عمران: "
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ
مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ
وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ "القاعدة الرابعة:أن الله تعالى يقيم الشهود على العباد يوم
القيامة بما فعلوه من جوارحهم كما قال : " يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" ، وقال أيضا: "اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا"
، وروي أن الكافر يطلب من الله أن يشهد جوارحه على نفسه فتشهد جوارحه بما عمل
فيقول :" قبحا لكنّ وسحقا عنكنّ كنت
أناضل. القاعدة الخامسة:أن الله تعالى
يضاعف الحسنات للعبد المسلم دون السيئات,كما قال سبحانه:" مَنْ
جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ
جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ"
. القاعدة السادسة : أن الله تعالى يكّفر الصغائر للعبد المسلم إذا اجتنب
الكبائر,كما قال:" إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا"
.
المسألة
الثانية:مناسبة قول الله تعالى:"وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ... الآية"
للآية التي سبقتها يظهر في الآتي : أولا:أن الله عز وجل بين ما يحتاج إليه العبد
من التوحيد والنبوة والمعاد ، وبين له كل
ما يحتاج إليه من شرح أحوال الوعد والوعيد والترغيب والترهيب وكل ذلك صار مفصلا
ومذكورا، وإذا كان الأمر كذلك فلا أعذار
ولا علل للعبد يعتذر بها ليتنصل من عبادة
الله ولذلك كل إنسان يرد عرصة القيامة فقد ألزمه الله طائره في عنقه,ثانيا:أن الله
تعالى بين للعباد ما وصل إليهم منه سبحانه من نعمة الدين ونعم الدنيا,ولهذا وجب
عليهم أن يتفرغوا لعبادته وينشغلوا بها ولذلك فكل من يرد عرصة القيامة يكون مسؤولا عن أعماله وأقواله وقد
ألزمه الله طائره في عنقه ، ثالثا: بين الله تعالى للعباد أنه خلقهم لكي يعبدوه
كما قال :" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ" ، وبين لهم أنه خلق الليل والنهار لينتفعوا بهما وليعلموا
عدد السنين والحاسب وبالتالي عليهم أن يتفرغوا لعبادته سبحانه وتعالى, رابعا:أن في
خلق الليل والنهار حساب لعمر الإنسان ومتى يكون مكلفا وهو بالعقل والبلوغ وأن كل
ليلة أو نهار يمر من عمره محسوب عليه,وإنما يوم الإنسان بعضه فإذا مرّ يومه مرّ
بعضه,ولهذا على الإنسان أن يوقن أن الله ألزمه طائره في عنقه وأنه"يخرج له
يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا" ، خامسا:وكما أن من حكمة خلق الليل والنهار
عدّ السنين والحساب والأعمار وغير ذلك ما هو معدود ، فكذلك من حكمته خلقها لإبتغاء
من فضله ، وأفضل الإبتغاء من الليل عبادة الله بالقيام والتهجد وتلاوة القرآن ، وفي
النهار بالعمل بمنهاج الله في الأرض ، والمسلم كما هو موصوف أنه راهب في الليل
فارس في النهار"فإن الله ألزمه الله
طائره في عنقه,ويحاسب على أعماله التي عملها في ليله ونهاره يوم القيامة.
المسألة الثالثة:قول
الله تعالى:"وكل إنسان" ، كل:لفظ للعموم والإستيعاب والإستغراق لكل
المذكورين في الآية ، والمذكور هنا هو"إنسان" ، والإنسان عام يشمل كل إنسان,وعلى
هذا فكل إنسان ألزمه الله طائره في عنقه,فيحاسب يوم القيامة على أعماله كلها خيرها
وشرها ، ولكن يستثنى من "كل إنسان" من هو غير مكلف ,وهو الصغير غير
البالغ,والمجنون والمعتوه غير العاقلين ,لأن هذين غير مكلفين بعبادة الله
تعالى,وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" رفع القلم عن ثلاث ، وذكر
منهم:الصغير حتى يحتلم, والمجنون حتى يفيق" ، فيكون : وكل إنسان "أي:كل
إنسان مكلف بعبادة الله تعالى ألزمه الله طائره : أي عمله في عنقه ويحاسب عليه يوم
القيامة ,والإنسان المكلف هو الإنسان البالغ العاقل.
المسألة الرابعة:قوله
تعالى"طائره"الطائر له معنيان ، الأول:عمله من خير وشر, والثاني:ما كتبه
الله على الإنسان من مقادير وهو في بطن أمه:رزقه وأجله وشقي أو سعيد.
المسألة
الخامسة:وقوله تعالى "طائره" هو مثل ضربه الله في القرآن الكريم,وخاطب
به العرب على حسب عادتهم, فقد كان العرب لهم سانح وبارح,أما السائح فهو إثارة
الطير فإذا ثار الطائر إلى اليمين كان سانحا وكان بشرى خير للعربي إذا أراد عملا
أو سفرا فإنه يقوم به, وأما البارح فقد كان للعربي بارحا وهو الطير إذا أثاره فطار
نحو الشمال فيكون شؤما فيتطير العربي به, فإذا أراد عملا أو سفرا لم يفعله تشاؤما
وخوفا ,فخاطب الله العربي حسب عادته ، "فطائره" أي عمله من
خير"سائح"أو شر"بارح"يرجع إليه ويلازمه يوم القيامة ، وخيره له وشؤمه عليه.
المسألة السادسة: قوله
تعالى: "في عنقه" ذكر لفظ العنق لعدة أسباب ,الأول: لأن العنق جزء من
الجسم لا ينفصل عنه وكذلك عمل الإنسان لازم له كلزوم العنق للجسد, الثاني:على عادة
العرب في الكلام كما يقول بعضهم لبعض:إثمي في عنقك",الثالث:لأنه العنق موضع القلادة
والمدح وموضع الأغلال وفيه الذم وكذلك عمل الإنسان كعنقه فيه العمل الممدوح وهو
العمل الصالح، ومنه العمل المذموم وهو العمل الطالح من الكفر والمعاصي ,الرابع:العنق
يكون موضع جمال إذا كان طويلا,وموضع ذم إذا كان قصيرا ، وهكذا الأعمال يوم القيامة منها ما هو جميل كجمال
العنق الطويل وهو الإيمان والعمل الصالح ، ومنها ما هو مذموم كالعنق القصير وهو
العمل الطالح من الكفر والشرك والمعاصي التي قصرت بالإنسان عن وصول الجنة وعن رضوان
الله تعالى في الآخرة.
المسألة السابعة : قوله
تعالى" وكل إنسان ألزمناه طائرة في عنقه "يعني: "ألزمناه ما قضي له
أنه عامله وصائر إليه من شقاء أو سعادة فعمله في عنقه لا يفارقه "
المسأله الثامنة : وبناء
على ما سبق فإن على كل إنسان أن يحاسب نفسه قبل أن يخرج من الدنيا ثم يحاسب على ما
قدم وأخر من خير أو شر، قال الحسن عند
قوله تعالى :"ولا أقسم بالنفس اللوامة" قال: "لا يلقى المؤمن إلا
يعاتب نفسه ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت
بأكلتي " ماذا أردت بشربتي ؟" وقال عمر بن الخطاب:" حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم
قبل أن توزن ، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم" ، والإنسان عمره مكون من أيام: فيوم مضى عليه أن يستغفر الله على ما قصر فيه من
طاعات وعلى ما اقترف فيه من معاصي ومنكرات ، ويوم هو فيه عليه أن يستغله في طاعة
الله وأن يحرص على أن يوفي يومه حق الله فيه من العبادة والطاعة ، ويوم قادم عليه
أن ينوي فيه العمل الصالح وأن يحرص على أن يستثمره في عبادة ربه وطاعته .
المسألة التاسعة:قوله
تعالى اقرأ كتابك" قال قتادة: سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا "
المسألة العاشرة
:وقوله "كتابك" ورد لفظ الكتاب في سورة الإسراء أكثر من مرة ،في هذا
الموضع وعند قوله تعالى" يوم ندعو كل
أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم ولا يظلمون فتيلا"
، ونتبين من الآية الثانية صفة أخذ الناس
كتبهم يوم القيامة واقتصرت الآية على صفة أهل اليمين الذي يأخذون كتبهم بأيمانهم، وأكدت على أن كل إنسان يقرأ كتابه يوم القيامة ،
وأما أهل الشمال والكفرة والمشركون فيؤخذون كتبهم بشمائلهم من وراء ظهورهم كما قال
الله سبحانه ومن أوتي كتابه بشماله..... " .
المسألة الحادية عشرة
:قوله تعالى "يوم القيامة" ذكر الله اليوم في القرآن بمعنى الليل
والنهار كما قال سبحانه"قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم" ، وذكر اليوم بمعنى النهار فقط
دون الليل كما قال :" فصيام ثلاثة
أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم" ، وذكر اليوم بمعنى الزمان المطلق كما قال سبحانه "
يوم يحمى عليهم في نار جهنم فتكوى بهم جباههم وجلودهم " وفي هذه السورة عنى باليوم اليوم الآخر وهو يوم
القيامة الذي يقوم فيه الناس من قبورهم للحساب ، وذكر يوم القيامة في سورة الإسراء
في ثلاثة مواضع ، في هذا الموضع وذكر فيه أنه يوم يحاسب فيه الناس، وذكره في موضع آخر فقال : "ونحشرهم يوم
القيامة على وجههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا" ، وبين
فيه هنا عذاب أهل النار الذين كفروا بربهم
عز وجل، وأما الموطن الثالث والأخير الذي ذكر فيه يوم القيامة في سورة الاسراء فهو
قوله سبجانه "وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا
شديدا" ، وفي هذه الآية تحذير للناس من الكفر والشرك والمعاصي .
المسألة الثانية عشرة:
وذكرت سورة الإسراء يوم القيامة بلفظ
الآخرة في عدة مواطن منها ، ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى " ومن أراد
الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن" ، وقوله : "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى
وأضل سبيلا" ، وقال في موطن ثالث :"وللآخرة اكبر درجات وأكبر
تفضلا"، وفي هذه الآيات الثلاثة بين الله مصير المؤمنين وعلو درجاتهم في الآخرة
ومصير الكافرين ودخولهم جهنم.
المسألة الثالثة عشرة : وذكرت سورة الإسراء (الآخرة ) مضافة في موطنين: الأول عند قوله تعالى "فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد" ، والموطن الثاني عند قوله تعالى"فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا" ، والمقصود بوعد الآخرة هنا المرة الأخيرة التي يتحقق فيها جمع بني إسرائيل على تراب فلسطين ثم إنزال العقوبة بهم على أيدي عباد الله المؤمنين الذين قال فيهم ( عبادا لنا).
المسألة الرابعة
عشرة: قوله تعالى" يلقاه منشورا" :تلى الحسن قول الله سبحانه "عن اليمين
وعن الشمال قعيد" فقال:" يا بن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان كريمان
أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك ، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك وأما الذي عن
يسارك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر ، حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم
القيامة كتابا منشورا فيقال لك : اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا .
نسأل الله السلامة والعافية والحمد لله رب العالمين
0 التعليقات:
إرسال تعليق