تعديل

السبت، 29 مارس 2025

نظرة في العيدية

نظرة في " العيدية"
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
 خطيب المسجد الأقصى المبارك
" العيدية " التي نعطيها بناتنا ، ولأولادنا ، ولقريباتنا ، ولأمهاتنا ، هي هبة وعطية ، وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في الهبات والأعطيات ، والتي منها ما نتعارف عليه اليوم في عيدي الفطر والأضحى ب" العيدية " ، وتكون أكثر استحبابا حين نخصّ بها أرحامنا من أصولنا كآبائنا وأمهاتنا ، وأجدادنا وجدادتنا ، وحين نخص بها فروعنا من أبنائنا وبناتنا وذرياتهم ، لأن الله سبحانه أوصانا بأرحامنا أن نصلها فقال سبحانه في سورة النساء آية "1" : (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ)، والمعنى كما قال القرطبي في تفسيره "5/2" : ( اتقوا الله أن تعصوه ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ) ، و " العيدية " ليست صدقة يتصدق بها الإنسان على غيره ، لأن الصدقة تعطى للفقير ، وأما الهبة أو العطية والتي من صورها " العيدية" فهي تعطى لذوي الأرحام خاصة على سبيل الهدية في عيدي الفطر والأضحى ، على سبيل التحابب ، والتراحم ، ومن المستحب في " العيدية" التسوية بين الأبناء فيها ، ذكورا وإناثا ، فيعطي البنت من الابن ، ولا يفضل فيها الابن الذكر على البنت ، فلا ينظر بعين واحدة ، ويتعامل مع أولاده في " العيدية " كأنه يقسم تركة وميراثا ،إلا إذا كانت هناك حاجة في التفضيل فيها ، وبخاصة إذا كانت البنت أو الأخت متزوجة ، ووضعها المالي غير جيد ، وأما بالنسبة للأبوين ، فيستحب تفضيل الأم بمزيد في " العيدية " التي كما قلنا هي هدية وعطية ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم فضلها بمزيد من البرّ على الأب حين سأله رجل : من أحق الناس بحسن صحابتي ، فقال له صلى الله عليه وسلم : (أمك) ، قال: ثم من؟ قال : ( أمك ) ، قال : ثم من ؟ قال : (أمك) ، قال :ثم من؟ قال : ( أبوك) ، وأما الأخوات فيستحب التسوية بينهن في " العيدية" ، إلا كما قلت سابقا إن كانت إحدى الأخوات محتاجة إلى مزيد بر وصلة ، وكذلك الأخوة إذا كانوا غير متزوجين وهو متزوج ، فيستحب أن يخصهم ب" العيدية " ، وإن أراد أن تشمل " عيديته " كل أخوته فبها ونعمت ، وهنا يمكنه أن يفضل في عطائه في " عيديته " الأخ الأكبر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( حق كبير الأخوة على صغيرهم كحقّ الوالد على ولده " ، وفي رواية : ( الأكبر من الأخوة بمنزلة الأب ) ، وأما العمات والخالات وغيرهن من المحرمات ، فأيضا يستحب صلتهن من خلال " العيدية " ومن المستحب لمن يعطى " العيدية " أن يدعو لمن أعطاها بالخير ، و" العيدية " مشهورة ومتعارف عليها عند أهل فلسطين ، ولكن في بعض أقطار المسلمين فهي غير معروفة، وكانت في فلسطين قبل عقود تشمل كل الأرحام من الأصول والفروع وذوي الأرحام وأذكر أننا كنا نمضي ثلاثة أيام العيد كلها في " المعايدات" على هذا الشكل ، ولا تكاد هذه الأيام تكفينا ، فرحم الله تلك الأيام التي كنا فيها في أيام العيد لا نترك قريبا ولا جارا إلا و"عيّدنا" عليه ، فكان الودّ ، والمحبة ، منتشران في مجتمعنا الفلسطيني ، وأما اليوم فيعذر بعضنا بعضا في تقليص هذا الامتداد من التراحم والتزاور الذي يتخلله " العيدية" ، بسبب الظروف السياسية ، والاقتصادية ، وكثرة الذرية والنسل ، فصرنا نخصّ ب" العيدية " خاصة الخاصة من أقاربنا ، على أننا يجب علينا التذكير ب" عيدية" زوجاتنا ، فلهن حق علينا ، وبخاصة في عيد الفطر ، الذي كُنّ فيه في شهر رمضان المبارك مجاهدات في خدمة الزوج والأولاد بعمل الولائم ، وتحضير السحور ، والحرص على أن لا يفوتنا منه شيء ، فليكن لزوجاتنا وأخص بالذكر منهن الصالحات القانتات البارات بالأهل و والعيال نصيب الأسد من " العيدية" والثناء ، وليحرص الأزواج عن سوء الخلق مع زوجاتهم وبخاصة في أيام العيد فربما يحاول البعض منهم ابتزاز الزوجة ، وأخذ ما حصلت عليه من " عيديات " ، مع أن الواجب عليه أن يبادر هو إلى إكرامها " بالعيدية" ، ولما كان أجمل ما في العيد هو صلة الأرحام والهدايا والعطايا للأطفال وللنساء ، وكذلك زيارة الجيران والأصدقاء والمعارف من الناس بشتى أنواع التواصل ، أحببت أن أضع بعضا من معالم ( العيدية ) عندنا في فلسطين ، وأهم هذه المعالم ،أولا: التكييف الفقهي ( للعيدية) هو أنها عطية وهبة ، ولذلك لا تحتسب من زكاة المال أو من الصدقة ، ولهذا لا تجزىء ( العيدية ) عن صدقة الفطر ،ثانيا: لا تكن محتالا على أبنائك وبناتك في ( العيدية) فتعطيهم إياها بيد وتأخذها منهم باليد الأخرى بذريعة ( التحويش ) لهم ، دع ابنك في العيد يكوّن شخصيته ويشكّلها من خلال تصرفه الحر فيما يملك من ( العيدية ) وليفعل بها ما يشاء ،فهو إن أنفق كل ( العيدية ) ولم يبق منها شيء،فإن في إنفاقه لها الخير الكثير لأنه من خلالها أعطي حرية التصرف في نفقة ماله وهو وحده الذي يقدر خسارته من ربحه وهو وحده الذي يستفيد من نفقة ( عيديته) ،فاتركوا أبناءكم في العيد يفرحون ( بعيدياتهم) ويكّونوا من خلالها جزءا من شخصياتهم.
والحمد لله رب العالمين

جموع المصلين المتوافدين إلى الأقصى لإحياء ليلة القدر كانت أصدق استفتاء على إسلامية المسجد

جموع المصلين المتوافدين إلى الأقصى لإحياء ليلة القدر كانت أصدق استفتاء على إسلامية المسجد

الجمعة، 28 مارس 2025

بعض أحكام ليلة العيد ويومه

رقائق إيمانية
بعض أحكام ليلة العيد ويومه
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
أولا : استحباب الغسل والطيب ولبس أجمل الثياب ، قال ابن القيم كان له - النبي-حل’ يلبسها للعيدين والجمعة. وقال مالك : (وجميع أهل العلم يستحبون الزينة والطيب في كل عيد)وقال الشافعي : (ويلبس الصبيان أحسن ما يقدرون عليه ذكوراً وإناثا)وكان ابن عمر يغتسل قبل أن يغدو إلى المصلى يوم الفطر و النساء : يخرجن من غير زينة ولا تطيب . فيجمعن بين فعل السنة واجتناب الفتنة
ثانيا : الأكل قبل الخروج إلى المصلى في الفطر وفي الأضحى يأكل بعده . عن أنس كان النبي لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل .
ثالثا : مغايرة الطريق لما رواه جابر " كان النبي إذا كان يوم عيد خالف الطريق "
رابعا : التكبير : وهو سنة في عيد الفطر : من وقت الخروج إلى الصلاة حتى ابتداء الخطبة .
خامسا : خروج النساء والصبيان للمصلى والجميع صغارا وكبارا لحديث أم عطية : " أمرنا أن نخرج العواتق والأبكار والحيّض يشهدن الخير ودعوة المسلمين ويعتزل الّحيض المصلى "
سادسا : حرمة صوم يومي الفطر والأضحى لما رواه أبو سعيد نهى رسول الله عن صوم يومين ، يوم الفطر ويوم النحر ،
سابعا : التهنئة : فقد كان أصحاب رسول الله إذا التقوا في العيد يقول بعضهم لبعض " تقبل الله من ومنكم "
ثامنا : التوسعة على العيال في الأكل والشرب والبشر ، وهو مستحب ، قال النبي : "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل "
تاسعا : صلة الأرحام وبخاصة الوالدين .
عاشرا : صلاة العيد وهي سنّة مؤكدة
الحادي عشر : عدم وجود راتبة قبلية ولا بعدية لصلاة العيد . قال ابن عباس عن النبي ك"خرج يوم الفطر فصلى ركعتين ولم يصل قبلها ولا بعدها "
الثاني عشر : الاستماع إلى الخطبة . قال النبي " إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب "
 الثالث عشر : اللهو المباح . لحديث عائشة : دخل أبو بكر وعندها جاريتان تغنيان في يوم عيد فزجرهما أبو بكر فقال النبي : إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا
قال ابن حجر : فيه تعليل الأمر بتركهن أنه يوم سرور شرعي فلا ينكر فيه مثل هذا ، كما لا ينكر في الأعراس والخلاصة العيد يوم فرح وسرور بإتمام الشعائر وأداء الفرائض كالصيام والحج , العيد منبثق عن عقيدة المسلمين وليس عن أفكار الناس" عيد شرعي " العيد فرصة لكل مسلم ليجدد العزيمة على الالتزام بالإسلام وتعظيم حرمات الدين يجب في العيد البعد عن كل معصية ومخالفة شرعية مثل : الاختلاط المحرم و التبرج والاستماع للموسيقى وارتياد الأماكن المشبوهة وغيرها من الأماكن التي يعصى الله فيها وأخيرا العيد يوم الانتصار على الشهوات وعلى الشيطان بالتزام أحكام الدين.
الرابع عشر : الخطبة في المسجد الأقصى المبارك : يلاحظ أن معظم الحاضرين للخطبة في المسجد الأقصى المبارك يرتكبون مخالفات شرعية أهمها : الأولى : عدم الاستماع للخطبة بالكلام المتبادل بينهم ، فيفوتون على من يريد الاستماع إليها نصيبهم من هذا الاستماع الذي حضروا من أجل الإفادة منه ، الثانية : عدم مراعاة حرمة وقداسة المسجد الأقصى بالاختلاط ، والتصوير المتنافي مع المسلمين ، الثالثة : الاعتداء على حرمة الخطبة بالهتافات والأهازيج الصادرة من الفتيان والفتيات ، وهؤلاء فقدوا ن نصيبهم من التقوى ، ومن الوطنية التي يزعمونها ، لأن الوطنية وحب الوطن يجب ألا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية ، وألا يتطاول أحد عليها ، وهذه الهتافات والأهازيج أثناء الخطبة تطاول على حرمتها ، فمن أراد ألا يستمع لخطبة الجمعة فليسكت أو لينصرف .
والحمد لله رب العالمين

الخميس، 27 مارس 2025

قبل أن ترحل

قبل أن ترحل
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
 قبل أن يرحل رمضان ، وقبل أن ترحل أنت أيضا وتغادر هذه الحياة الدنيا ، قف معي رعاك الله تعالى عند هذه الآية الكريمة من سورة يونس آية : "7" : (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)، واسأل نفسك هل عبدت الله ربك عبادة الخوف منه سبحانه ؟ أم هل عبدته عبادة الطمع والرجاء برحمته ؟ أم أن قلبك مفلس من هاتين العبادتين ، فاحذر فهذا الله لا يخاف من الله عقابا ، ولا يرجو منه ثوابا ، احذر أن تفرح بالدنيا ،أو تسكن إليها ، احذر أن ترضى بالدنيا عوضا عن الآخرة ، فم سُميت الدنيا بالدنيا إلا لدناءتها ، ولقربها من الزوال ، احذر أن تكون الغافلين ، الذين لا يعتبرون ولا يتفكرون ، إن كنت انتهكت حرمة رمضان فقبل رحيله تب وارجع إلى ربك ، وإن كنت تنتهك عمرك بالمعاصي والغفلة عن طاعة الله ربك ، فسارع في العودة إليه سبحانه ، واعبده طمعا في جنته ، وخوفا من عقابه ، فإن جنته دار خلود لا يشقى ساكنها ، وإن النار دار خلود يشقى فيها نزيلها ، وتفكر كم من رمضان أتى ومضى ، وتذكر الناس من حولك كم من حبيب كان بقربك وهو الآن في القبر ينتظر أن يبعث منه يوم القيامة ليحاسب على مثقال ذرة ،فإن كنت قادرا أن تهرب من الموت ، أو تفلت من يوم القيامة فافعل ما بدا لك ، وإن كنت غير ذلك ، وأنت كذلك ، فاقرأ هاتي الآيتين وتفرك فيهما طويلا ، ففيهما ذكر الله تعالى صفات أصحاب العقول المنتكسة التي لا ينتفعون بها في النجاة العظمى في الدارين الدنيا والآخرة ، حيث نسوا أن عقلهم مناط تكليفهم ،وأنه سبب لتمييزهم عن غيرهم من خلق الله تعالى ، وأنهم بغيره لا قيمة لهم ولا شأن ، فهل المجنون له قيمة وشأن وهل له تميز بين الناس ؟؟؟ . وأمّا هذه الصفات التي أدت إلى انتكاس عقول أصحابها فهي:أولا: الكفر بالآخرة وترك العمل لها مع أن صاحب العقل السليم حين يستخدم نظام الاحتمالات سيصل مباشرة إلى نتيجة هامة وهي يجب أن أعمل للآخرة، وذلك من خلال نظام الاحتمالات فيقول : يمكن أن تكون هناك آخرة ويمكن ألا تكون ، فالأفضل لي أن أعمل للآخرة حتى إذا كانت لا أخسر حينها الجنة والنجاة من النار لكن لو كفرت فستكون مصيبة المصائب حينئذ ،وهذا ما دعا الله إليه الناس فقال سبحانه: " وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر" ، يعني ببساطة ماذا سيخسر من يؤمن بالله واليوم الآخر، لن يخسر شيئا إلا انتكاسة عقله...ثانيا: الرضا بالحياة الدنيا دون العمل للآخرة الصفة الثانية من صفات أصحاب العقول المنتكسة ، ويدل على انتكاسته في عقله أن الدنيا ما سميت دنيا إلا لأنها دنيّة من الدناءة فهل يرتضي العاقل أن يؤثر الدنيء على ما ليس دنيئا ؟ وأيضا ما سميت دنيا إلا لقربها من الآخرة وأنها زائلة وأن الآخرة هي الباقية فكيف يفضل صاحب العقل الرشيد الفاني على الباقي الخالد ، أليس هذا انتكاسة في عقول من يختار الدنيا على الآخرة؟ثالثا: الغفلة عن النظر في قدرة الله وملكوته ، وهذه الغفلة هي أكبر المفسدات للعقول ،وهي أكبر المهلكات للبشر ، وقد حذر الله منها في القرآن الكريم في عديد المواطن وذمّ من يتصف بها بل أنزلهم منزلة الحيوان لاتصافهم بها فقال سبحانه:" أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون" وإني لأعجب أشد العجب ممن يحمل شهادات عليا ووصل مرحلة متقدمة من العلم والثقافة وارتكس عقله وانتكس فلم يصل إلى مرتبة ذلك الأعرابي الأمّي الجاهل الذي لا يعرف القراءة والكتابة ولكنه احترم عقله ووظّفه في أصل وظيفته التي خلق لها وهي التكليف فاستدل على قدرة الله وعجيب صنعه حين قال بكلام بسيط ولكنه كلام علمي عميق :" البعرة تدل على البعير والقدم تدل على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا يدل ذلك على العليم الخبير"؟؟؟ ومن ارتكس عقله وانتكس واتصف بهذه الصفات الثلاثة كان مصيره النار يوم القيامة وهذه نتيجة حتمية لمن كان كذلك ، ألا ترون معي أيها السادة القرّاء أنه لو أنّ أي موظف كان لا يذهب إلى مكان عمله ولا يعمل بما يجب عليه من أعمال بل يسخر ويستهزأ من طبيعة عمله ويشهّر بصاحب العمل ، هل يستحق الأجرة على وظيفته أم يستحق الحرمان منها بل والعقاب لسخريته واستهتاره ؟ فكيف بأصحاب العقول المنتكسة ولله تعالى المثل الأعلى!!! وأصحاب العقول المنتكسة ما انتكست عقولهم إلا لأنهم رضوا بالحياة الدنيا فلم يعملوا عقولهم بالنظر والتفكر في حياة أخرى سوف تكون وهي أفضل وأبقى من الدنيا التي يعيشون فيها ، ورضاهم بالدنيا أغلق عقولهم فجعلهم يظنون أنّ الدنيا تكفيهم ولا حاجة تدعوهم للنظر في الحياة الأخرى وهذه هي الانتكاسة الحقيقية للعقول فلو لم تنتكس عقولهم لعلموا وأيقنوا أن حياتهم الدنيا ناقصة ويدل ل نقصانها زوالها وأنهم ميتون لا يخلدون فيها ويدل على نقصانها أيضا أنها حياة لا سلامة فيها ولا معافاة ولا سعادة تامة ففيها المرض والفقر والحزن والخوف ولا تخلو من الأكدار مهما سلمت للمرء فهل حياة كهذه يتمسك بها عاقل له مُسْكة من عقل ؟؟؟

الأربعاء، 26 مارس 2025

ليلة القدر

ليلة القدر
رقائق إيمانية
 الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
ليلة القدر هي ليلة مباركة ، قال الله تعالى في سورة الدخان آية "3" : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ)، والليلة المباركة هي ليلة القدر التي نزل فيها القرآن الكريم بوساطة الوحي جبريل عليه السلام على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، قال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن 16/126" : ( ولها أربعة أسماء : الليلة المباركة ، وليلة البراءة ،وليلة الصكّ ، وليلة القدر ، ووصفها بالمباركة لما ينزل فيها على عباده من الخيرات والبركات والثواب ) ، وفي هذه الليلة  المباركة وهي ليلة القدر ، يفرق الله فيها كل أمر حكيم ، كما خبر في الآية الرابعة من سورة الدخان فقال سبحانه : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)،  فليلة القدر هي ليلة العمر كله ، من رزق خيرها فهم مكرم محظوظ ، ومن حرم خيرها فاته الخير الكثير ، وليلة القدر تعني:ليلة الحكم التي يقضي فيها ربنا عز وجل قضاء السنة كلها وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ، قال:نزل القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئا أنزله منه حتى جمع،وقال الحسن في شأن ليلة القدر :"فيها يفرق كل أمر حكيم " : فيها يقضي الله كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها ،واختلف العلماء في معنى قوله تعالى"ليلة القدر خير من ألف شهر" على أقوال,قال القرطبي "وأشبه الأقوال بظاهر التنزيل قول من قال:عمل في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر" ،  وقوله تعالى"تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر" الصواب من أقوال المفسرين في معنى الآية الكريمة:أن الملائكة في هذه الليلة تتنزل وجبريل معهم وهو "الروح"بإذن ربهم من كل أمر قضاه الله في تلك السنة من رزق وأجل وغير ذلك ، وقوله تعالى"سلام هي حتى مطلع الفجر" أي :أن ليلة  القدر سلام من الشر كله من أولها إلى طلوع الفجر من ليلتها، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قال ليلة القدر في العشر البواقي من قامهن ابتغاء حسبهن فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهي ليلة وتر تسع أو سبع أو خامسة أو ثالثة أو آخر ليلة " ،ومن الأمور التي يغفل عنها المسلمون اليوم أن التشاجر بينهم والأحقاد والضغائن سبب في رفع الخير والبركة عنهم,فقد روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال :خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحي رجلان من المسلمين فقال :"خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحي فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خير لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة"، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحيي العشر الأواخر من رمضان ، وهذه هي سنّته التي علينا أن نحرص عليها فعن عائشة رضي الله عنها قالت :" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله"، ويستفاد من قول عائشة رضي الله عنها أن النبي  صلى الله عليه وسلم وأسرته كانوا يقومون الليالي العشر من رمضان فعلى رب الأسرة أن يكون قدوة لهم فيشد مئزره أي لا ينشغل بالدنيا ومتاعها من النساء وغيرهن ،ويجتهد في العبادة ، وإذا عرفنا ما تقدم ذكره عن ليلة القدر وفضلها وجب على المسلمين ما يلي: أولا : الإقبال على هذه الليلة بالإحياء ويشمل الإحياء كل عمل صالح من صلاة وتلاوة للقرآن ومدارسة العلم النافع وذكر الله تعالى ثانيا:وعلى المسلمين أن ينتهوا عن المنكرات والمعاصي التي يحدثونها في العشر الأواخر من رمضان وبخاصة في ليلة القدر كالمفرقعات وإضاعة الوقت في القيل والقال والغيبة والنميمة وغير ذلك فإنها بضاعة كاسدة للرجل الفارغ ، ثالثا:ليحرص كل مسلم على الدعاء في ليلة القدر بالخير له وللمسلمين ، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم السيدة عائشة أن تدعوا  قائلة:"اللهم انك عفو تحب العف فاعف عني وهذا دعاء عظيم النفع لأن عفو الله تعالى سبب سعادة المرء في الدنيا والآخرة ، فيا رب انك عفو تحب العفو فاعف عني وعن المسلمين ، رابعا : نرى أهمية الليل في حياة المسلم ، وبخاصة في رمضان ، وعلى  الأخص في ليلة القدر ، فكما أن للمسلم وظيفة في نهاره ، من خلالها يعمر الكون بمنهج الله وطاعته ، فكذلك هذه الوظيفة تشمل ليله ، فاليوم وهو النهار وليلته في حياة المسلم هو للإنتاج ، وللعمل إرضاء الله تعالى ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه  وسلم في رمضان يحيي الليل كله ، ويعزف نفسه عن ملذات الدنيا ، وكذلك في غير رمضان كان ليله صلى الله عليه وسلم للقيام وقراءة القرآن وتلاوته ، ولأهمية الليل في حياة  المسلم فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن السهر في الليل من غير حاجة ملّحة ، ومن غير ضرورة ، ولم تكن ليالي رمضان خاصة للسهرات والغناء وعصيان الله تعالى ، كما رأينا وشاهدنا على وسائل التواصل الاجتماعي ، فهذا كله مخالف لتعاليم ديننا الحنيف ، ومخالف لمقصد الصيام وهو تحقيق التقوى في شهر رمضان ، في ليله ونهاره ، وهذا من كبائر الذنوب التي سوف يسلط الله تعالى على مرتكبيها وعلى من يسكت عنها العذاب الشديد، وما نراه حولنا سينزل بنا إن لم نبادر إلى التوبة :(فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ)سورة غافر آية " 44" 
والحمد لله رب العالمين

الثلاثاء، 25 مارس 2025

كن رجلا يا رجل

كن رجلا يا رجل
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
 خطيب المسجد الأقصى المبارك
الرجولة صفة إنسانية أناطها الله تعالى بالذكر دون الأنثى ، ليس احتقارا للأنثى ، ولكن لأن من حكمته سبحانه أن خصص لكل من الذكر والأنثى وظائف يقوم بها في حياته من أجل أن يعمرها بشريعة الله تعالى ، وفق هذه الخصائص ، فكان من نصيب الذكر صفة الرجولة ليحمل الرجل أعباءها من التكاليف الشرعية ، فكان الأنبياء والرسل رجالا ، لأنهم أقدر على حمل الرسالة والنبوة ، وكان الالتزام بالصلوات الخمس جماعة في المسجد من نصيب الرجل لأن من خلالها لها دور اجتماعي وإنساني مهم ، وكانت الدعوة بمختلف أشكالها وبكافة أساليبها أليق بالرجل وأنسب لكونه أقدر من ألأنثى عليها ، ولقد خلق الله تعالى الذكر ليكون رجلا ، لأنه أقدر على تحمل المشاق في وقت الأزمات ، ولأن هدف الرجولة بشكل عام هو إعمار الكون بمنهاج الله تعالى ، وإن كانت الأنثى تشاركه في هذا الإعمار ، إلا أن مشاركتها تبقى في حدود أنوثتها التي خلقها الله تعالى عليها ، فلا يغرّ الذكر صفة الرجولة التي امتنّ الله بها عليه ، لأن لها تبعات وأعباء كثيرة ومتعددة ، ومن هنا جاء القرآن الكريم يخبرنا عن الرجولة ، وصفاتها ، ومعالمها ، ووظيفتها ، في عديد الآيات والسور القرآنية ، وعلى سبيل المثال قوله تعالى في سورة النور "37" : (رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ)، فانظر رعاك الله كيف أثنى الله على الرجال لأنهم عرفوا وظيفتهم في الحياة والتي منها إعمار المساجد بالصلاة والذكر وطاعته سبحانه ، وإذا علمت أخي الفاضل أن ذكر الله من الرجال ، والوارد في هذه الآية الكريمة ، يكون في المسجد الأقصى المبارك ، كما ورد هذا التفسير عن الحسن البصري " الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ، 12/265" ،غلب على ظنك وأنت تتلو هذه الآيات الكريمة ، أنك أنت أيها المسلم في فلسطين عامة ، وفي بيت المقدس خاصة ، هو المقصود من الخطاب بالذات منها ، وأولى من غيرك من التمثل والعمل بها ، ولهذا ولما سبق ذكره من مواصفات ووظائف للرجل قلت لك في عنوان هذه المقالة " كن رجلا يا رجل " ، فإثبات الرجولة له صوره ومواطنه وما نراه من بعض الشباب في القرى والمخيمات والمدن والتجمعات الفلسطينية من إطلاق النار من البنادق في المناسبات وغير المناسبات وفي الشجارات وغير الشجارات هو مباهات و"عنترة"، وكله يدل على حقيقة واحدة لا لبس ولا جدال فيها وهي أنهم لا يملكون من مقومات الرجولة أدناها ولن يملكوا أعلاها بسلاحهم فهم أقل من ذلك وأدنى ، بل يدل إطلاقهم الرصاص على عدة أمور أهمها: الأول : إما أنهم جهلاء لأن العاقل لا يستخدم السلاح في كل الحالات التي ذكرناها قبل قليل ، ثانيا :أو أن شخصياتهم ضعيفة وممسوخة فيريدون إثبات شخصياتهم ووجودهم بإطلاق الرصاص من بنادقهم ، ثالثا: أو أنهم يريدون إثبات قوة العائلة والعشيرة وإرهاب من حولهم وهذه قمة السخافة والطيش لأن قوة العشيرة أو العائلة بين العشائر والعائلات يكون بمدى التزامها بالقيم والعادات النابعة من تعاليم الشريعة الإسلامية ، ويكون بمدى إظهار انتمائهم لشعبهم ووطنهم وقضيتهم ، رابعا: وإما أن يكون من يطلق الرصاص مدفوعا من جهة معادية ، وإلا كيف يسمح له باقتناء السلاح وإطلاق الرصاص دون محاسبة أو متابعة ؟؟؟!!! ، خامسا: وأما إطلاق الرصاص بمناسبة الأفراح فهو رعونة وطيش وخفة عقل ، لأنه بالتجربة أدى هذا الأمر إلى إزهاق أرواح بريئة بغير حق ، ولأن فيه إنفاق للمال في غير محله ومكانه وهذا من التبذير والإسراف الذي نهى الله عنه بقوله :" ولا تبذر تبذيرا " ثم وصف الله المبذر ب"الشيطنة" فقال:" إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا"، فهذا الذي يطلق الرصاص يبذر ماله في غير حق وهو تبذير في الحرام ويكفيه أن الله وصفه بالكفر والذي يعني هنا جحود النعمة ، وهذا الجحود لنعمة وهب نعمة المال دفعه للزهو والبطر فلو طلب من مطلق الرصاص أن يتبرع بقيمة الرصاص للفقراء ولا يقوم بإطلاقه لرفض وهو بهذا يكون متبعا لشهوته ولطيشه ولرعونته، ولأن إظهار الفرح بالزواج أو بالنجاح أو بغيره يكون بما ينفع الناس وبما لا يضرهم ويؤذيهم ، ولأن في إطلاق الرصاص إخافة وترويع للصغار ولكبار السن ولطلاب العلم وقد نهى رسولنا صلى الله عليه وسلم أن يروع مسلم مسلما ، ولأن إطلاق الرصاص يؤدي إلى نشوب النزاعات والثارات الجاهلية ودفع الديات وتمزيق اللحمة بين أبناء المجتمع الفلسطيني والتي نحن في أمس الحاجة إليها في ظل الظروف التي نحياها ، وبناء على ما تقرر سابقا فإن من يشتري أو يبيع سلاحا أو يستخدمه فيما أشرنا إليه من حالات فهو خارج عن قيم المجتمع الفلسطيني وأعرافه النابعة من تعاليم الدين الحنيف ، وهو أيضا خارج عن الصف الوطني لأن الفلسطيني الوطني هو الذي يحفظ أمن وطنه ويعمل ليل نهار على راحتهم وتوفير سبل الخير لهم ، وهو بكل تصرفاته المذكورة الطائشة الرعناء خارج أيضا عن وصف ( الرجولة) ، فإن أراد أن يعيد لنفسه رجولتها فليق سلاحه وما فيه من رصاص في حاوية القمامة ،ثم ليعلم أنه إن أصر على طيشه ورعونته فلن يخيف أحدا ولن يقيم له الناس اعتبارا ولا وزنا.
والحمد لله رب العالمين

الاثنين، 24 مارس 2025

العبرة بالخواتيم

العبرة بالخواتيم
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي 
خطيب المسجد الأقصى المبارك 
ثبت في صحيح البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الأعمال بالخواتيم) ، وهاتان كلمتان صادرتان عن النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم ، وهما من الوحي غير المتلّو ، الذي على كل مسلم خاصة ، أن يقف عنده ، ويعمل بما جاء به ، أمرا أو نهيا ، وهاتان كلمتان تقرعان القلوب ، وتهزان الوجدان ، لأنهما تقرران المصير الأبدي في الحياة الآخرة ، إما إلى جنة ، جعلنا الله وإياكم منها ، وإما إلى نار جهنم ، أعاذنا الله منها ، وكم بكى الصالحون قبلنا خوفا من سوء الخاتمة رغم صلاهم ، فهذا سفيان الثوري ، يبكي ليله كله ، وحين يُسأل عن سبب بكائه يقول : ( وإنما أبكي خوفا من سوء الخاتمة ) ، فماذا نقول نحن عن أنفسنا ؟ وماذا نفعل ؟ ونحن مقصرون ، ونحن في غفلة ، ونحن لا نحسن طاعة ربنا عزّ وجلّ على أكمل وجه ؟ ولقد نبهنا ابن القيم أن الخوف من سوء الخاتمة من أعظم الفقه ، أن يخاف المسلم أن تخذله ذنوبه عند الموت ، فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى ، ومن المبشرات بحسن الخاتمة ، والنجاة من سوئها ، أن يوفق الله المسلم على العمل الصالح قبل موته ويموت عليه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله خيرا بعبد استعمله )، قيل : كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال : ( يوفقه لعمل صالح قبل الموت ) ، ومن أجمل ما قرأت ونحن نقف على عتبات توديع شهر رمضان ما قاله ابن الجوزي : ( إن الخيل إذا بلغت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق ، فلا تكن الخيل أفضل منك ، فإنما الأعمال بالخواتيم ) ، ومثله قال ابن تيمية : ( العبرة بكمال النهايات ، لا بنقص البدايات ، وقديما قال الشاعر : ولو أنا إذا متنا تركنا ، لكن الموت راحة كل حيّ ، ولكنا إذا متنا بعثنا ، ونُسأل بعده عن كل شيء، وقد علمنا من سبقنا من السلف الصالح أن ندعو ونقول : ( اللهم اجعل خير عملي خاتمته ، وخير عمري أخره ) ، لأن العبرة بالخاتمة ، فهي التي ستلاقي ربك عليها ، وهي التي يذكرها الناس لك بعد موتك ، وهي التي تمحو ما قبلها ، ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تعجبوا بعمل عامل حتى تنظروا بما يُختم له ) ، وإذا كانت هذه خطورة الخواتيم ، ومصير النهايات ، فتعالوا نتذكر أننا في نهاية شهر رمضان ولم يبق منه إلا يوما أو يومين فالعاقل منا من يدرك نفسه وينقذها من عذاب النار قبل رحيل هذا الشهر الذي فيه كل ليلة عتقاء من النار فلا تيأس إن كنت مقصرا مع ربك تعالى ، ولا تقنط إن كنت من أهل الفجور والمعاصي ، فربك رحمن رحيم فاتح أبواب توبته ومغفرته لك ينتظرك أن تلج وتدخل ، هيا عجل ولا تسّوف في التوبة والرجوع ، حتى لو كنت منتهكا لحرمة الشهر كله فأمامك متسع للتوبة ، وأنت أيها الصائم الحبيب الذي أمضى نهاره في شهر رمضان صائما وفي ليله قائما حذار حذار أن تغتر بعملك فتهلك ،أو أن تظن نفسك عبدت الله حق عبادته فتجهل ، الطريق أمامك طويل ،فعبادة الله ليست في شهر رمضان بل هي في العمر كله فأنت مخلوق لعبادته سبحانه ومنذ أن بلغت وأنت عاقل فقد وجبت عليك العبادة لله وصرت مكلفا تحاسب على الصغيرة والكبيرة ، وعلى الفرض والحرام ، فكن ممن يعمل لآخرته في حياته كلها ، واعلم يا من أسرفت على نفسك في شهر رمضان وعصيت الله ربك ، ويا من أطعت الله في رمضان وأحسنت أن العبرة لكليكما بالنهاية ( بالخاتمة) وليس في البداية ،فلينظر كل منكما كيف تكون خاتمته فعليها يتوقف المصير في الآخرة ، فيا من عصيت ربك وأسرفت على نفسك من الذنوب أسرع فقد تسبق الطائع في شهر رمضان إن أحسنت الأوبة والتوبة بخاتمتك ، وأنت يا من أطعت الله في رمضان بالصلاة والصيام لا يغرنك صومك وصلاتك فالعبادة صوم وصلاة وصلة رحم وأخلاق حسنة وأمر بمعروف ونهي عن نكر وغير ذلك من أفعال الخير فهل حصّلتها كلها ؟ إن لم تحصّلها كلها فلا زال أمامك من العمر بقية فكن جامعا لخصال الخير في شر رمضان وفي أشهر السنة حتى إذا فجأك الموت كنت على خاتمة حسنة ، وأذكرك وأذكر كل مسلم طائع وعاص بقول ابن تيمية :" العبرة ليست بنقص البدايات وإنما العبرة بكمال النهايات فأصلح فيما بقي يغفر لك ما قد سلف ، وكما ذكرنا سابقا قول ابن الجوزي:" إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق فلا تكن الخيل أفطن منك فإنما الأعمال بالخواتيم ،فإذا لم تحسن الاستقبال لعلك تحسن الوداع " ،فخواتيم الأعمال أنت الذي يصنعها ويحددها فاجعل من عيدك عيدين ،عيد فطر من الصيام ، وعيد عزم على طاعة الله على الدوام ، وانتظر بعد ذلك جائزتك في الدنيا بتوفيق الله لك ، وفي الآخرة برضوان الله عنك.
والحمد لله رب العالمين

الأحد، 23 مارس 2025

فضائل سورة الفاتحة

فضائل سورة الفاتحة 
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
لأن سورة الفاتحة تكرر عديد المرات في اليوم ، وعديد المسلمين لا يحسنون تلاوتها خصوصا في الصلوات الخمس، ولا يحسنون التدبر في آياتها ، أكتب هذه المقالة في فضائل سورة الفاتحة ، حتى يقبل المسلمون على تعلمها ، وإتقان تلاوتها ، وهذه جملة من فضائلها : خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: (أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ" اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ ثُمَّ قال) إِنِّي لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ،وفي الحديث الشريف : (مَا فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلُ أُمِّ الْقُرْآنِ)، المعنى : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعْطِي لِقَارِئِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ من الثواب مثل يُعْطِي لِقَارِئِ أُمِّ الْقُرْآنِ ،إِذِ اللَّهُ بِفَضْلِهِ فَضَّلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ ، وَأَعْطَاهَا مِنَ الْفَضْلِ عَلَى قِرَاءَةِ كَلَامِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى غَيْرَهَا مِنَ الْفَضْلِ عَلَى قِرَاءَةِ كَلَامِهِ، وَهُوَ فَضْلٌ مِنْهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، ومَعْنَى قَوْلِهِ: (أَعْظَمُ سُورَةٍ) أَرَادَ بِهِ فِي الْأَجْرِ، لَا أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ ، وَالتَّفْضِيلُ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَعَانِي الْعَجِيبَةِ وَكَثْرَتِهَا، لَا مِنْ حَيْثُ الصِّفَةِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ ، وَفِي الْفَاتِحَةِ مِنَ الصِّفَاتِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ فِيهَا، وَهِيَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ كَلِمَةً تَضَمَّنَتْ جَمِيعَ عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ شَرَفِهَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَسَّمَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ،وَلَا تَصِحُّ الْقُرْبَةُ إِلَّا بِهَا، ولا يَلْحَقُ عَمَلٌ بِثَوَابِهَا، وَبِهَذَا المعنى صارت أم القرآن العظيم،َمَا صَارَتْ" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، إِذِ الْقُرْآنُ تَوْحِيدٌ وَأَحْكَامٌ وَوَعْظٌ، وَ" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" فِيهَا التَّوْحِيدُ كُلُّهُ ، وأَسْمَاء سورة الفاتحة، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ اسْمًا: الْأَوَّلُ الصَّلَاةُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ)، (الثَّانِي): [سورة] الْحَمْدُ، لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْحَمْدِ، كَمَا يُقَالُ: سُورَةُ الْأَعْرَافِ، وَالْأَنْفَالِ، وَالتَّوْبَةِ، وَنَحْوِهَا،(الثَّالِثُ): فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تُفْتَتَحُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِهَا لَفْظًا، وَتُفْتَتَحُ بِهَا الْكِتَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ خَطًّا، وَتُفْتَتَحُ بِهَا الصَّلَوَاتُ، (الرَّابِعُ): أُمُّ الْكِتَابِ، وَفِي هَذَا الِاسْمِ خِلَافٌ، جَوَّزَهُ الْجُمْهُورُ، وَكَرِهَهُ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ. قَالَ الْحَسَنُ: أُمُّ الْكِتَابِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ" وَقَالَ أَنَسٌ وَابْنُ سِيرِينَ: أُمُّ الْكِتَابِ اسْمُ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، الْخَامِسُ): أُمُّ الْقُرْآنِ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا، فَجَوَّزَهُ الْجُمْهُورُ، وَكَرِهَهُ أَنَسٌ وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ تَرُدُّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي) قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ،وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ: وَسُمِّيَتْ أُمَّ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ يُبْتَدَأُ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَيُبْدَأُ بِقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ أُمَّ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا أَوَّلُهُ وَمُتَضَمِّنَةٌ لِجَمِيعِ عُلُومِهِ، (السَّادِسُ): الْمَثَانِي، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَة،. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا اسْتُثْنِيَتْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَمْ تَنْزِلْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهَا ذُخْرًا لَهَا. (السَّابِعُ): الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَضَمُّنِهَا جَمِيعَ عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عز وجل بِأَوْصَافِ كَمَالِهِ وَجَلَالِهِ،وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْعِبَادَاتِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا،وَالِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِشَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا بِإِعَانَتِهِ تَعَالَى ، وَعَلَى الِابْتِهَالِ إِلَيْهِ فِي الْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَكِفَايَةِ أَحْوَالِ النَّاكِثِينَ، وَعَلَى بَيَانِهِ عَاقِبَةَ الْجَاحِدِينَ ، (الثَّامِنُ): الشِّفَاءُ، رَوَى الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (فَاتِحَةُ الْكِتَابِ شفاء من كل سم)، (التَّاسِعُ): الرُّقْيَةُ، ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَفِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلرَّجُلِ، الَّذِي رَقَى سَيِّدَ الْحَيِّ: (مَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ) فَقَالَ: يا رسول الله شي أُلْقِيَ فِي رَوْعِي، الْحَدِيثَ. خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِه،(الْعَاشِرُ): الْأَسَاسُ، شَكَا رَجُلٌ إِلَى الشَّعْبِيِّ وَجَعَ الْخَاصِرَةِ، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِأَسَاسِ الْقُرْآنِ فَاتِحَةِ الكتاب، سمعت ابن عباس يقول: لكل شي أَسَاسٌ، وَأَسَاسُ الْكُتُبِ الْقُرْآنُ، وَأَسَاسُ الْقُرْآنِ الْفَاتِحَةُ، وَأَسَاسُ الْفَاتِحَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَإِذَا اعْتَلَلْتَ أَوِ اشْتَكَيْتَ فَعَلَيْكَ بِالْفَاتِحَةِ تُشْفَى ، (الْحَادِي عَشَرَ): الْوَافِيَةُ، قَالَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، لِأَنَّهَا لَا تَتَنَصَّفُ وَلَا تَحْتَمِلُ الِاخْتِزَالَ، وَلَوْ قَرَأَ مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ نِصْفَهَا فِي رَكْعَةٍ، وَنِصْفَهَا الْآخَرُ فِي رَكْعَةٍ لَأَجْزَأَ، وَلَوْ نُصِّفَتِ الْفَاتِحَةُ فِي رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُجْزِ،(الثَّانِي عَشَرَ): الْكَافِيَةُ: لِأَنَّهَا تَكْفِي عَنْ سِوَاهَا وَلَا يَكْفِي سِوَاهَا عَنْهَا. يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ خَلَّادٍ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أُمُّ الْقُرْآنِ عِوَضٌ مِنْ غَيْرِهَا وَلَيْسَ غَيْرُهَا مِنْهَا عِوَضًا)، وإِنَّ مَوْضِعَ الرُّقْيَةِ مِنْهَا إنما هو" إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"، وَقِيلَ: السُّورَةُ كُلُّهَا رُقْيَةٌ، لِقَوْلِهِ عليه السلام لِلرَّجُلِ لَمَّا أَخْبَرَهُ: (وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ) وَلَمْ يَقُلْ: أَنَّ فِيهَا رُقْيَةً، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ السُّورَةَ بِأَجْمَعِهَا رُقْيَةٌ، لَيْسَ فِي تَسْمِيَتِهَا بِالْمَثَانِي وَأُمِّ الْكِتَابِ مَا يَمْنَعُ مِنْ تَسْمِيَةِ غَيْرِهَا بِذَلِكَ، قَالَ الله عز وجل:" كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ" ، فَأَطْلَقَ عَلَى كِتَابِهِ: مَثَانِيَ، لِأَنَّ الْأَخْبَارَ تُثَنَّى فِيهِ،وَقَدْ سُمِّيَتِ السَّبْعَ الطُّوَلَ أَيْضًا مَثَانِيَ، لِأَنَّ الْفَرَائِضَ وَالْقَصَصَ تُثَنَّى فِيهَا، والْمَثَانِي جَمْعُ مَثْنَى، وَهِيَ الَّتِي جَاءَتْ بَعْدَ الْأُولَى، وَالطُّوَلُ جَمْعُ أَطْوَلَ. وَقَدْ سُمِّيَتِ الْأَنْفَالُ مِنَ الْمَثَانِي لِأَنَّهَا تَتْلُو الطُّوَلَ فِي الْقَدْرِ، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي تَزِيدُ آيَاتُهَا عَلَى الْمُفَصَّلِ وَتَنْقُصُ عَنِ الْمِئِينَ، "منقول بتصرف من الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
والحمد لله رب العالمين

السبت، 22 مارس 2025

خصال الخير

خصال الخير 
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
الأنبياء عليهم الصلوات والتسليمات قدوة للخلق وقد جمعوا خصال الخير،فحريّ بالعاقل أن يقتدي بهم ، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام قد جمع هذه الخصال خصال وأثنى الله عليه بها فقال سبحانه في سورة النحل "120" : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام التي تتحدث الآية عن صفاته هو من أولي العزم من الرسل,وأولو العزم هم: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ونوح,وقد سماهم الله (أولو العزم) لشدة ما لقوا من أذى الكافرين,ولصبرهم وثباتهم على الإيذاء والبلاء ، وجدير بالمسلمين من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم أن يقتدوا بأولي العزم فيصبروا على الإيذاء والابتلاء الذي يصيبهم وذلك بالثبات على دينهم,وبالعمل من اجل نصرته هذا من جهة ، وأن يحاول كل مسلم منا أن يكون في حياته ( أمّة) كما كان إبراهيم (أمّ) (إن إبراهيم كان امة) ،فلماذا نفقد في مجتمعاتنا المسلمة الرجل (الأمّة) والمرأة (الأمّة) ؟ وبخاصة من حملة الشريعة الإسلامية فالرجل إذا كان عالماً جامعاً لخصال الخير ومعلماً للخير يسمى أمة، فالعالم المسلم الجامع لخصال الخير والعامل بها هو (أمّة) وهو العالم الرباني الذي يذهب إليه الناس ويتبعونه ليأخذوا منه أحكام دينهم أقوالا وسلوكاً,وأحكاما وعملاً ،فتعساً لعالم لا يكون قبلة للناس! وتعساً لعالم لا يقتدي به! وتعساً لعالم يتخذ الدين مطية للدنيا ولشهواتها ، وشهر رمضان الذي نستظل في ظلاله الوارفة بالخير يدعونا إلى أن يكون كل منا (أمّة) من دون الناس ، وهو أمر مقدور عليه لو عزم أحدنا على تحقيقه في حياته بدوام الطاعة لله عز وجل,وهي صفة القنوت التي امتدح الله بها إبراهيم عليه السلام ووصفه بها ، والمسلم الصائم حين يجمع خصال الخير لا بد أن يحقق خصلة شكر نعم الله عليه كبيرها وقليلها بقلبه ولسانه وبجوارحه كلها ، وهو مع هذا الشكر بهذه الصفة مقصر في شكر نعم الله عليه ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها ( سورة النحل " 18" ، وشكر نعم الله من العبد عدا عن كونها عبادة فهي أدب يتأدب به العبد مع ربه ومن جمع خصال الخير فكان عالماً عاملاً بعلمه مطيعاً لربه في كل أحواله وشاكراً له سبحانه على نعمائه ولا يميل عن الإسلام إلى غيره من الملل الباطلة فان الله يجتبيه ويهديه ويرزقه الذرية الصالحة كما أكرم الله إبراهيم حيث اجتباه وهداه، والاجتباء كما يكون للأفراد يكون للمجتمعات أما الفرد فيجتبيه ربه بأن يرفع منزلته في الدنيا ويرزقه الذرية الصالحة ويذكر اسمه في مجامع الخيرات،وأما الأمم الجامعة لخصال الخير هذه فان الله يمكن لها في الأرض ، وهي متحققة إن شاء الله تعالى في كل مجتمع مسلم يلتزم بهذه الصفات ويجعلها من صفاته الأصيلة التي يقيم حياته عليها، ومن خصال الخير التي يغفل عنها المسلمون في رمضان التوبة النصوح ، وكما قيل : درهم وقاية خير من قنطار علاج ، ودرهم توبة خير من قنطارصيام لا يتوب فيه المسلم عما حرّم الله عليه ،لأن الأصل في المسلم أن يكون تقياً,أي:مؤدياً للفرائض,ولا يقترف المعاصي, ولأن ابن ادم بطبعه خطاء,فقد أرشده الإسلام إلى التوبة,ومن خطوات التوبة أن يحدث المسلم عند كل ذنب أذنبه,طاعة وحسنة، وطرق الخير وخصاله كثيرة,فتعالوا نتعرف إلى بعضها,لنبادر إلى العمل بها,ولأننا في بيت المقدس بحاجة ماسة إليه: أولاً : كيف الشر عن الناس,فهذا باب من أعظم أبواب الخير,وهو باب من أبواب الصدقات التي تنفعك قال أبو ذر رضي الله عنه,قلت : يا رسول الله أرأيت ان ضعفت عن بعض العمل؟ - يعني العمل الصالح – قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك " متفق عليه، ثانياً : لقاء الناس بوجه طليق,فبادر أيها المسلم الحبيب,إلى ملاقاة غيرك من المسلمين,بوجه مبتسم,متهلل لرؤيته ولو كنت في شحناء معه,لتصفو القلوب,ولكي تحابب النفوس,فالابتسامة لا تكلف شيئاً إلا قبض وجهك بالانشراح لأخيك المسلم,فسارع إلى هذا الخلق الرفيع,لنشر المودة بيننا, فرسولنا صلى الله عليه وسلم يقول " لا تحقرنّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق "، تذكروا أيها الصائمون أنكم في شهر رمضان,شهر الحب,والتعاون,والتسامح والتواصل، ثالثاً:إماطة الأذى عن طرقات المسلمين,وألوان الأذى كثيرة في مجتمعنا المقدسي,ومن الأمثلة عليها :
1- إلقاء النفايات في الشوارع وإمام بيوت الجيران.
2- نزول السائق من سيارته وتركها في الشارع ، والتسبب في إرباك حركة المرور.
3- الاستطالة في البنيان على الجيران من غير وازع يردع,ولا خلق يمنع، وما تبقى من ألوان الأذى,فأنتم تعيشونها وتعرفونها,فكونوا في شهر رمضان من أهل الصدقات,بإماطة الأذى عن طرقات المسلمين,فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " وتميط الأذى عن الطريق صدقة " متفق عليه، وهذا نداء لكم جميعا قبل أن يحمل رمضان رحاله ويرحل ، تعالوا لنوحد قلوبنا ،تعالوا لنجمع أيادينا وجهودنا، تعالوا إلى دخول سوق الخيرات ، فالكلمة الطيبة صدقة،وتعين الرجل في دابته تحمله عليها,وترفع له عليها متاعه صدقة،وتعدل بين الاثنين صدقة، وتعين ذا الحاجة الملهوف صدقة،وتمسك عن الشر صدقة،وتعزل حجراً عن طريق الناس أو شوكة وعظماً,تزحزح نفسك عن النار،هكذا قال رسولنا صلى الله عليه وسلم،وهكذا علمنا،وكل ما ذكرته لكم هي نماذج لخصال الخير وخصاله، وهي لا تخفى عليكم ، وكل هذه من وجوه الصدقات التي أنتم في رمضان تتنافسون في الصدقات ، مع العلم أن الصدقة لا تقف عند المال ، فكل خصلة من خصال الخير صدقة فبادروا إليها.
والحمد لله رب العالمين 

الجمعة، 21 مارس 2025

رقائق إيمانية

رقائق إيمانية
عيد ألأم
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
الأم لها مكان الصدارة في ديننا الحنيف ، فهي مقدمة على الأب لأنها حملت بالابن ولأنها أرضعته ، ولأنها قامت برعاية ولدها وحضانته ، قال الله سبحانه في سورة الأحقاف "15" : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)، وأكد صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة للأم بهذه الاعتبارات الثلاثة فقال في الحديث الذي يرويه البخاري (سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال:أمك ، قيل : ثم من ؟ قال: أمك،قيل ثم من؟ قال :أمك . قيل ثم من؟ قال: أبوك)، ولعلوّ مكانة الأم في الإسلام جعلها من المحرمات على ابنها على التأبيد ، فقال سبحانه في سورة النساء"23":(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ)، والأم كما قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ( كل أنثى لها عليك ولادة) "5/108" ، والأم ترضعك حبها وحنانها ما لبانه الذي ترضعك إياه ، ولهذه الاعتبارات وغيرها فقد أمر القرآن الكريم وأمرت السنة النبوية الشريفة بالبرّ بها والإحسان إليها ، ونهى عن عقوقها ، فقال تعالى في سورة الإسراء "23" : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً )، فجعل الله سبحانه الإحسان إلى الأم وإلى الأب قضاء ملزما وواجبا ، وهو قضاء على سبيل الأمر الواجب تنفيذه من الولد ، وجعل برّ الأم والأب مقرونا بتوحيده ، وقرن شكرهما بشكره ، وكما أن الله تعالى خلقك وأوجدك من العدم بعد أن لم تكن شيئا ، فكذلك أمك ثم أبوك كانا سببا بوجودك من خلال زواجهما ، وكما أن الله سبحانه أنعم عليك بنعمه التي لا تُعدّ ولا تحصى فأوجب عليك شكره ، فكذلك أمك وأبوك قاما برعايتك وبذلا كل ما في وسعهما لبذل كل عطاء لك ، فكان من الواجب عليك شكرهما بالإحسان إليهما ، كما كان من الواجب عليك عبادة الله شكرا على ما أنعم عليك ، وهذا ما أكدت سورة الإسراء ، آية " 23-24" ، حين قال الله عزّ وجلّ: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً)، وكان صلى الله عليه وسلم شديد البرّ بأمه ، حتى استأذن الله تعالى أن يستغفر لها فلم يأذن له ، واستأذنه في زيارتها فأذن له ، وهذا كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه ، وبناء على ما تقدم فالإسلام كان سبّاقا لغيره في معرفة منزلة الأم ، وما الدعوة إلى ما يسمى ب" عيد الأم " إلا دليل على الإفلاس القيمي والديني عند الغرب أما نحن أهل الإسلام فلنا أعياد ثلاثة وهي : عيد الفطر ، وعيد الضحى ، ويوم الجمعة ، وكلها أعياد مربوطة بالعبادات ، فعيد الفطر يأتي مباشرة بعد صيام شهر رمضان ، وعيد الأضحى يأتي مباشرة بعد أداء فريضة الحج ، ويوم الجمعة قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم ( إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين ،فمن جاء الجمعة فليغتسل ) ، ونلاحظ أن أعيادنا الثلاثة ينفق المسلم وقتها فيها في الطاعات ، كصلوات الجمعة ، وصلاتي عيدي الفطر والأضحى ، وكأعمال البر والصلة ، من صدقات وصلة رحم ، وأما بالنسبة " لعيد الأم " فليس في الإسلام عيدا يسمى عيد أم ولا غيره من الأعياد التي ذكرناها ، لكن لماذا نتشنج في الفتوى ، ونحرم بر الأم وصلتها في هذا اليوم بذريعة أنه " بدعة " ، وأنه ليس في ديننا " عيد أم" ؟ نعم لا نقول عن هذا اليوم يوم عيد ، ولكن لا نحرم صلة الأم وبرها في هذا اليوم ، بل قد يكون هذا اليوم تذكير للعاقين من الأبناء والبنات أن يبروا بأمهاتهم وآبائهم في هذا اليوم ، إذن نؤصل لهذا ونقول : "عيد ألأم " ليس عيدا من أعياد الإسلام ، لكن لا مانع أن نتذكر في هذا اليوم أمهاتنا بمزيد من البر والصلة ، ولا مانع أن نذكر كل من هو عاق في هذا اليوم ليتوب من عقوقه ، والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها ، فبر الأم وصلتها والإحسان إليها ، كل ذلك مشروع وله أصل في ديننا ، فليكن هذا اليوم يوما :أولا: نتذكر فيه أن الله أكمل لنا ديننا ، ومن ذلك حصر أعيادنا في ثلاثة أعياد فقط ، ثانيا : أن نعمل على بر أمهاتنا في أل 365 يوما من أيام السنة ، وليس في يوم واحد فقط ، ثالثا : أن نستغل هذا اليوم بالتوبة من العقوق ، وبمزيد البر والإحسان لأمهاتنا ، رابعا : أن تشمل توبتنا وبرنا أمهاتنا وآباءنا ، رابعا: أن نتفقه في أحكام البر والإحسان لنعمل بهما ، وأن نتفقه في أحكام العقوق لنجتبها ، خامسا : أن يكون برنا وإحساننا لأمهاتنا وآبائنا شاملا وعاما ، للبر والإحسان المادي كالنفقة والهدية ، وللبر والإحسان المعنوي والذي جمعه قول الله سبحانه (وَقَضى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً)، فإلى البر والإحسان لوالدينا..
والحمد لله رب العالمين

الخميس، 20 مارس 2025

القنوت في النوازل

القنوت في النوازل
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
لما نزلت بالمسلمين في عهد أبي بكر الصديق نازلة الردة ، حيث ارتدت بعض القبائل عن الإسلام ، قرأ أبو بكر رضي الله عنه في الركعة الثالثة من صلاة المغرب بقوله تعالى :(رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْك رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) سورة آل عمران (8)، قال العلماء عند هذه الآية :قرأ الصديق بها على سبيل القنوت والدعاء وقتئذ ، انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (4/30)، والمؤمنون حين يدعون الله بهذه الآية الكريمة يسألونه ألا يبتليهم بما يثقل عليهم من الأعمال فيعجزوا عنها ،ويسألونه ألا يزيغ قلوبهم عن الحق الذي أمّنهم عليه ،وألا يعوّجوا عن الدين الذي منّ به عليهم ، وهذا في حالة الأمن ، وهو أوجب وأحرى بالمسلمين حين تنزل بهم النوازل ، فنسأل الله ابتداء أن يثبت قلوبنا على دينه ، وأن يقلب قلوبنا على الرضا بمقاديره ، فشعبنا الفلسطيني في أماكن تواجده ، تنزل به نوازل لم تعدها البشرية من قبل ، ولم ترتكس إليه الإنسانية عبر تاريخها الطويل الممتد عبر القرون والأزمنة ، وعلى كل حال إذا كان الصديّق وهو الخليفة الراشد قنت ودعا لنازلة واحدة وهي نازلة الردة فكيف بشعبنا ؟ بل كيف بأمتنا وقد تعددت عليها النوازل ، نازلة الجوع ، ونازلة الظمأ ، ونازلة المرض والجراح ، ونازلة المطر والبرد ، ونازلة الخوف وفقدان المأوى ، ونازلة الردة عن الدين التي نعيش آثارها ونرى صورها العدية في عدي الأقطار ، والتي تجتمع الأمم كافة لتزيد من شدّة هذه النازلة خاصة ، والتي كانت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه محصورة في بعض القبائل ، بينما نازلة الردة بصورها الظاهرة والباطنة ينتشر أوراها ولهيبها في كل قطر من أقطار الأمة المسلمة ، وهذه النوازل كلها ألا تستوجب من المسلمين الذين لا يملكون إلا الدعاء أن يقنتوا ويدعوا الله لرفع هذه النوازل عنهم وقد قال صلى الله عليه وسلم (هل تنصرون إلا بضعفائكم بدعوتهم وإخلاصهم) ، فالاستعانة بدعاء الضعفاء من المسلمين في وقت النوازل له أثره ، لأنهم أكثر خشوعا ، وأشدّ إخلاصا ، ولا ريب أن من المسلمين اليوم من هم أهل إخلاص يستجاب لهم ، والأمر الملاحظ العجيب والغريب ، الذي لا أستطيع تفسيره ، أو أجد له جوابا ، هو عجز الأمة المسلمة بمجموعها أفرادا وجماعات عن إحياء سنة قنوت النوازل التي لا مبرر لانشغالها عن هذه السنًة الملحّة والطارئة ، والتي هي أقل الواجبات المطلوبة منها لنصرة المستضعفين من أبناء جلدتها ودينها ،لذلك سنطلب منكم القنوت في صلواتكم ، وسنكثر من الدعاء لشعبنا وللمسلمين أن يرفع عنهم ما نزل بهم من النوازل ، مع العلم أن النوازل هي الشدائد التي تحلُّ بالمسلمين ، وقد أخبرنا الله بها في كتابه لنوطنّ أنفسنا على استقبالها كما أمرنا وشرع لنا ومن ذلك قوله سبحانه (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)سورة آل عمران (186) ، وما ينزل بشعبنا من النوازل التي تشيب لها الولدان ، وتقشر لها الأبدان ، أمرنا الله عندها مهما عظمت واستبدت ، أن نجعل الصبر زادنا فيها ، وأن نجعل التقوى لباسنا أثناءها ، لأن الصبر والتقوى ، ركنان أساسيان في مواجهة النوازل واستقبالها ، وهي من عزائم الأمور التي يواجه بها المسلمون النوازل ، وقنوت النوازل شرعه النبي صلى الله عليه وسلم حين قُتل سبعون من الصحابة القرّاء غدرا من بعض أحياء العرب فقنت صلى الله عليه وسلم شهرا وكان من دعائه في قنوته ، كما أخرج البخاري عنه في الحديث الذي يرويه أنس بن مالك رقم (4090)، حين جاءه خبر استشهاد القُرّاء غدرا عند بئر معونة ، وكان عددهم سبعين قارئا من الأنصار ، فقنت شهرا يدعو في صلاة الصبح على الذين قتلوهم من أحياء العرب ، فكانت هذه نازلة مؤلمة للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة الكرام وبخاصة أنه قتل فيها عدد كبير من حفظة القرآن الكريم ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الصلوات الخمس كلها ، وهذا ما رواه أبو داود في سننه (1443)، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وعليه فقنوت النوازل سنة مشروعة في الصلوات الجماعية الخمسة ، وفي الصلاة الفردية ، وكما قلنا سابقا، فهي سُنّة مهجورة اليوم مع أن المسلمين في أشدّ الحاجة إليها ، وهي صورة من صور التكافل المعنوي بين المسلمين ،وللسادة أئمة المساجد خاصة ، ولعموم المسلمين أضع بعض الملاحظات الفقهية حول قنوت النوازل ، منتظرين المبادرة إلى إحياء هذه السنة النبوية ، وهذه الملاحظات : أولا: المشروع في الدعاء في قنوت النازلة أن يكون يسيرا غير طويل ، ثانيا : أن يقتصر الإمام في دعائه على النازلة فقط اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ثالثا : الاستمرار في قنوت النازلة ما دامت موجودة لم تنكشف بعد ، وحتى بكشفها الله تعالى ، رابعا : لا يوجد صيغة معينة لقنوت النازلة كصيغة القنوت في صلاة الصبح أو الوتر ، بل يدعو الإمام بأي صيغة تفي بالغرض من الدعاء ، خامسا : من السنة النبوية جهر الإمام بالدعاء ، خامسا : ومن السنة تأمين المصلين خلف الإمام على دعائه.
 والحمد لله رب العالمين

الأربعاء، 19 مارس 2025

المرأة منحة وفتنة

المرأة منحة وفتنة
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
المرأة الفلسطينية الصالحة تاج على رأس كل نساء الدنيا ، فهي أم مربية مضحية ، وهي زوجة معينة صابرة، وهي ابنة بارة طائعة ، وهي أخت حانية محبة ، وهي قريبة تترقب كل خير لأهلها وأقاربها ، وهي بهذه الميزات كلها تجمع صفة نادرة الوجود في النساء من حولها وهي صفة الجلد والصبر على اللأواء وضنك العيش ، فهي إما أم لشهيد أو زوجة لأسير أو ابنة لرجل عصامي لا يكاد دخله يكفيه ، وفي كل هذه الحالات فهي محتسبة أجرها على الله تنتظر منه سبحانه الفرج العاجل القريب في الدنيا على أحرّ من الجمر ، وترجو رضوان ربها ورحمته في الآخرة ، وهذا في كل أشهر السنة من حياتها ، ولكنها في شهر رمضان المبارك تجمع مع ذلك كله امتيازها في العطاء اللامحدود والمتواصل ، فهي في الليل تظل قلقلة لا يهدأ بالها ولا تكاد تغفو عينها حتى تطئمن أن افراد أسرتها من زوج وأولاد وبنات وربما من كنّات وأحفاد قد تناولوا وجبة السحور ،وتركوا فراشهم لأداء صلاة الفجر ، وأثناء نهار رمضان ترعى شئون بيتها ولا تكاد تنتهي من ذلك حتى تقضي سحابة نهارها تعد الطعام لمن صام من أفراد أسرتها ولمن يكون ضيفها في رمضان ، وهي بذلك تحوز أجر الصيام وأجر من صام ، فعن أنس بن مالك قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار، وأكثرنا ظلاًّ صاحب الكساء، فمنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوامون وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذهب المفطرون اليوم بالأجر".، فالمرأة في رمضان حصل لها أجر عملها ومثل أجر من صام من أفراد عائلتها ، وإذا عرفنا أن البخاري ذكر هذا الحديث في باب (فضل الخدمة في الغزو) ندرك أن ما تقوم بها نساؤنا في شهر رمضان يضاهي أجر الغازين في سبيل الله ، ومع كل هذا الجهد والفضل لهذه المرأة نجد بعد ذلك زوجا يشتمها أو يقلل من شأن عملها أو يرفع صوته عليها وينسى أنه في نهاره كان متكئا على أريكته مستسلما للراحة والنوم،فما أقبحه من رجل ! وما أسوأ أخلاقه ؟ ألا يعلم أن واجب مثل هذه المرأة أن نكرمها بالكلام الطيب والثناء الجميل ، وأن نكرمها في العيد بالعطاء الواسع أو المقبول الذي يناسب حجم جهدها ، ومقدار نصبها وتعبها ، وقد قال من سبقنا ( ألأجر على قدر المشقة) ، وأنا أقول : تريد منك المرأة منك إنسانا يعطي لأهل الفضل فضلهم، فشكرا شكرا لقوارير فلسطين الصالحات القانتات ، وهذه هي المرأة التي هي منحة ، أما المحنة في المرأة ،ففي النساء فتنتان هما أولا:أن الزوجات يؤدين إلى قطع الأرحام،، حيث تأمر الزوجة زوجها بمقاطعة أمه وأخواته وإخوانه وأقربائه،وكذلك تفعل الحماة ، والمرأة المسلمة تجمع ولا تفرق، وتحبب ولا تبغض ، لأن خير الناس عند الله من كان مفتاحاً الخير، وشر الناس من كان مفتاحاً للشر، ثانيا : الرجل يضطر إلى جمع الأموال من حلالها وحرامها، ليرضى زوجته، وليحقق لها طلباتها التي قد تكون تافهة وغير ضرورية، ونلاحظ أن بعض الزوجات، تنفق مئات الشواقل لشراء السكاكر وأشباهها وهي في غنى عن هذا الإنفاق الطائل، وبعضهن تنفق الآف الشواقل لشراء الكماليات التي وجودها في البيت وعدمها سيان، ومن الفتنة في النساء أيضا الزنا، والاختلاط بهن بغير حاجة، أو إذن من الشارع، ورؤيتهن متبرجات، مائلات عن الحق، مميلات لقلوب الرجال إلى فاحشة والحرام، والزواج من غير المسلمات، والعزوف عن النكاح الحرائر المسلمات ، ولشدة قباحة فتنة النساء المحرمة أعني الزنا ومقدماته، فقد أوجب الشريعة الإسلامية عقوبة الرجم على الزاني المتزوج ( المحصن) ، وعقوبة الجلد على الزاني الأعزب، ورمضان شهر فرصة سانحة كي تصلح الزوجة من نفسها، فلا تدعو زوجها إلى قطع رحمه،وفي نفس الوقت أن يكون الزوج عاقلا، فلا يستجيب لزوجته بقطع رحمه ، وأن تقتدي المرأة بمن سبقها من نساء السلف الصالح، حيث كانت الزوجات المسلمات الأوائل، قبل أن يخرج زوجها إلى عمله توصيه قائلة: اتق الله ولا تطعمنا إلا حلالا، وأن تحرص النساء على قطع كل أسباب فتنة الرجال بها، وهي مأجورة على ذلك وهذا يكون: بالتزامها بآداب اللباس الإسلامي للمرأة المسلمة وألا تخالط إلا محارمها، وأما غير محارمها فعند الحاجة، ووفق أحكام الشريعة، وأن تتصف المرأة بالرشد في النفقة، فلا تحرم نفسها مما أباح الله لها من الطعام والشراب وغيرهما، ولكن من غير إسراف ولا بذخ، وأن ترتقي بنفسها كإنسانة عن غيرها من المخلوقات الحية، فالمخلوقات الحية بما فيها الإنسان تأكل وتشرف وتتغوط وتنام، ولكن الإنسان علاوة على ذلك، فقد وهبه الله عقلا، ليكون سببا في تكليفه بعبادة ربه، فهو مخلوق للعبادة وليس للأكل والشراب والشهوات كما قال الله عز وجل: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، وأن تحسن الزوجة إلى قريبات زوجها وأقاربه وبخاصة أم زوجها وأخواته، وأن تحسن أم الزوج إلى كنتها(زوجة إبنها)، بأن تتقبل أن ابنها صار مستقلا عنها بزوجته وأولاده، فلا تتدخل في شؤونهم إلا ضمن قاعدة( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، والكلام هنا يطول وذو شجون ، ولكن حسبنا أن نقول:اتقين الله يا نساء المؤمنين .
والحمد لله رب العالمين

الاثنين، 17 مارس 2025

صور التكافل

صور التكافل
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
المواساة ، والحماية ، والتعاون ،والحب ، والإيثار ، وغيرها من الصور العديدة هي من صور التكافل ،، وقد يكون دافع التكافل إنساني ، أو قومي ، أو سياسي ، أو ديني ، فمن أحقّ بالتكافل منّا نحن المسلمين خاصة ، ونحن العرب عامة ، الذين تجمعنا روابط عديدة ، رابطة الدين ، ورابطة النسب والدم ، ورابطة القومية ، ورابطة الحمّية والوطنية ، إن تجاوزنا واعتبرناها روابط تجمع بيننا ؟ولماذا غيرنا من الأمم يتكافلون فبما بينهم ونحن نلقي التكفل وراء ظهورنا ؟ لقد بلغت الحمّية الجاهلية أن ينحاز المشركون من بني هاشم مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حصار " الشِعب" ، وأهل الباطل نراهم اليوم تتكافل دولهم ومنظماتهم التي تُسمّى بالمنظمات الإنسانية على باطلهم وكفرهم ، أما أهل الإسلام الذين جاءت نصوص كتابهم ، وسنّة رسولهم صلى الله عليه وسلم حاشدة بالحث والأمر بالتكافل في السراء والضراء ، فلا نرى منها إلا النزر القليل الذي لا يكاد يُذكر ، ألم يكن رسولنا صلى الله عليه وسلم قدوة في التكافل حتى قبل نبوته كما وصفته خديجة رضي الله عنها حين قالت : (كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسِب المعدوم، وتَقرِي الضيف، وتُعِين على نوائب الحق)؟ فلماذا لا نقتدي برسولنا الكريم ؟ ألم تتحقق أروع صور التكافل من الأنصار مع المهاجرين حتى أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقسم النخل، بينهم وبين المهاجرين، فقال: لا، فقال الأنصار: (تكفونا المؤونة، ونشرككم في الثمرة) ، بل حتى وصل التكافل فيهم بالتوارث بينهم دون توارث الأرحام ، لأن الأخوة في الدين تجمعهم ؟ فأين هذه الصور مع المهاجرين من المسلمين اليوم ؟ لا تسألوني : ما هي صور التكافل في ديننا لأنها صورها لا تحتاج إلى كشف وبيان ، فكل معونة ، ونصرة ، ومواساة ، وحماية ، صورة من صور التكافل ، بل التعاون بين المسلمين بكل معانيه وصوره تكافل ، وإن أردتم أن أزيدكم من الشعر بيتا فعلت ، فالتكافل لا يقتصر على التكافل المادي فحسب ، بل يشمل التكافل المعنوي أو النفسي ، أو الشعوري ، سمّوه بما شئتم ، هل تتعاملون به ؟ من منكم يتفقد أخاه وجاره وصديقه ويتعرف إلى حوائجه ليقضيها له ؟ من منكم يقدم العون للغارم ، واليتيم ، والأرملة ، والمسكين ؟ من منكم يضع لبِنَةً في بنيان التكافل ؟ أصدقوني القول كم نسبة المسلمين اليوم الذين يعملون بحديث واحد فقط للرسول صلى الله عليه وسلم وهو : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)؟ ألا تقومون عن مقاعد عجزكم وتقصيركم وتنهضوا للتكافل ، فما أحوجنا اليوم إلى إحياء هذه الفريضة ، ووجوه التضامن في الشريعة الإسلامية عديدة ، ذكرها العلماء في كتب الفقه والتفسير تحت باب ( التكافل) ، والتكافل بين المسلمين بابه واسع ، وقطع صلة الرحم حرام شرعا ، لأنها صلة الرحم من الواجبات الشرعية المتفق عليها عند علماء الأمة ، وقطيعتها محرّمة ، والأدلة الشرعية على تحريم قطيعتها من القرآن والسنة النبوية عديدة ، منها قول الله تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَساءلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) ، والمعنى : اتقوا الله أن تعصوه ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، والتفتوا أيها الشباب هنا كيف قرن الله تعالى بين الأمر باتقائه ، والأمر باتقاء قطيعة الرحم ، للدلالة على عظم هذه الجريمة وهي قطيعة الأرحام ، وقد جاء في الحديث الشريف أن الرحم معلقة بالعرش تقول : (من وصلني وصله الله ، ومن قطعني قطعه الله ) ، وبناء على هذا ، وحتى لا نقدم بين يدي الله ورسوله بقول أو فعل أو رأي ، وقد قال ربنا تعالى ذكره في أول سورة الحجرات : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، فإننا مطالبون بصلة الرحم في كل الأزمان ، ومطالبون بها في شهر رمضان خاصة ، حتى نزيد من تكافلنا ، ويزداد رضا الله عنا ، ويتقبل منا إقبالنا على الطاعات ، مع العلم أن الصحابة الكرام ، وهم القدوة الحسنة لنا ، سقط منهم شهداء وجرحى في رمضان في غزوة بدر، فلم يقطعوا أرحامهم ، ولم يدعوا إلى ترك الواجبات الشرعية بسبب ما أصابهم وقتئذ ، فالمسلم وقت البلاء يصبر ويحتسب ، ويبحث عن كل أسباب التكافل الشرعية مع المسلمين ليعمل بها ، وإن كان ولا بُدّ هنا ، فإننا ندعو إلى التقنين في الطعام والشراب ، ليتسنى إعانة كل مسلم يحتاج إلى العون والبر والصّلة ، وقد نحتاج ونحن نعيش أسوأ الظروف إلى أن نتعلم فقه التكافل بشكل عملي بعيدا عن الوعظ والتنظير ، التكافل المادي ، والتكافل المعنوي ، وكافة صور التكافل ، مقتدين بذلك بالصحابة الكرام الذين هو خير القرون ، والذين طبقوا مبدأ التكافل في أبهى صوره ، وأعلى مقاماته ، وبخاصة حين ظهر هذا التكافل بين المهاجرين والأنصار ، ولعل واقع بعض المسلمين اليوم هو تماما كواقع المهاجرين والأنصار ، فمن با ترى يكون أنصاريا بكل ما تحمل هذه الصفة من معنى مشرق وبهيج ، ليكون له الأجر والثواب من الله سبحانه ، على تكافله ، وعلى اقتدائه بالصحابة الكرام رضي الله عنهم .
والحمد لله رب العالمين

السبت، 15 مارس 2025

الثوب الواحد والإناء الواحد

الثوب الواحد والإناء الواحد
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
كم يحتاج شعبنا المسلم من وقت ليكون ثوبه واحدا وإنائه واحدا في ظل المتغيرات المصيرية التي يواجهها ؟ فلا يوجد متسع للوقت للتفكير ، ولا مساحة متبقية للانتظار ، فالأمر جلل ، وجِدُّ خطير ، لذلك يجب تطبيق مبدأ التكافل فيما بيننا تطبيقا عمليا نرى فيه نتاج هذا العمل الإيماني يتنقل بين أسرنا ويدبّ في أحيائنا السكنية ، ونكون مثل قبيلة " الأشعريين الذين ضرب بهم النبي صلى الله عليه وسلم المثل ، وحثّنا على الاقتداء بهم في الذي صنعوه وبادروا إليه من التعاون فيما بينهم والذي لم يُسبقوا إليه ، تعاونا على الخير ، وتسابقا إلى الخير المنقطع النظير ، حتى قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم ( فهم مني وأنا منهم ) ، فماذا فعلت هذا القبيلة اليمنية حتى نالت إعجاب النبي صلى الله عليه وسلم ، واستحقت هذا الثناء ، تعالوا نستمع لما رواه البخاري في صحيحه حديث رقم (2486) عن أبي موسى الذي هو أحد أبناء هذه القبيلة " الأشعريين" ، قال :قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو ، أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسويّة ، فهم مني وأنا منهم ) ، وقبل أن نقف عند هذا الحديث الشريف للإفادة منه دعونا نذكر بالحالتين المشتركتين بين شعبنا الفلسطيني في هذه الأيام وبين حال الأشعريين الذي كانوا عليه حين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، أما الحالة الأولى التي يشترك شعبنا مع هذه القبيلة فهي حالة الغزو " الحرب " فشعبنا يعيش هذه الحالة ، وهي أصعب من حالة الغزو التي كانت عليها هذه القبيلة اليمنية ، والحالة الثانية التي تجمع بين شعبنا وقبيلة الأشعريين فهي قلّة الطعام عندهم وعندنا ، ولو أردنا أن نقوم ببحث ميداني لوجدنا أن شعبنا في قلّة زاده وطعامه أشدّ حاجة ، وأكثر تضررا ، وهذا واضح للعيان من واقعنا المعاش ، ولا يحتاج إلى التدليل عليه ، فهو كالشمس في رابعة النهار لا تحتاج إلى من يثبت وجودها ، إذن ماذا فعلت هذه القبيلة كي تخرج مما أصابها في الحالتين ؟ والجواب : أولا : جمعوا طعامهم كله في ثوب واحد ، ثانيا : تقاسموا هذا الطعام بينهم بالسويّة ، فكأنهم صاروا شيئا واحدا ، وأسرة واحدة ، وتحت سقف واحد ، اجتمعت قلوبهم ، وتآلفت أرواحهم ، وصاروا كأنهم جسدا واحدا ، فصار هذا الطعام كله لهذا الجسد المتآلف ، وكم يحتاج شعبنا المسلم في ظروفه الحالية القاسية التي يعيشها إلى هذه القوة من الأواصر والترابط ، وإلى هذه المحبة ، وإلى هذا الاجتماع الذي لا مثيل له ، إنه مثال عملي على الإيثار ، وعلى المواساة ، وعلى اجتماع الرأي والموقف عند الأزمات الطارئة ، وعند الحاجة العارضة ، وهذا ليس بغريب على من استوطن الإيمان قلبه ، وذاق طعمه ، وفقه المراد من عقيدة الولاء بين المسلمين ، ولهذا فرح صلى الله عليه وسلم بصنيعهم ، وأثنى عليه حتى جعلهم متصلين بهم ، لاتفاقهم جميعا على طاعة الله تعالى بما فعلوه وأقدموا عليه ، فقال فيهم ( هم مني وأنا منهم ) ، وفي هذا بيان لفضيلة هذه القبيلة ، واستحباب خلط الزاد بالسفر والإقامة وبخاصة عند الحاجة والضرورة ، وأنا هنا حين أخاطب أبناء شعبنا المسلم لا أدعوهم إلى أن يقتدوا بالأشعريين " حذو القذة بالقذة " ، لعديد المفارقات بين حالنا وحالهم على جميع المستويات وخصوصا السياسية ، والاقتصادية ، والتركيبة السكانية ، وحتى الحالة الإيمانية ، ولكن يمكن الاقتداء بهذا القبيلة التي أحبها النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليها بعديد الصور من التكافل ، والمواساة ، والتعاون ، والتعاضد على الخير ، وقد ذكرت السنة النبوية صورا مختلفة للتكافل والمواساة بين المسلمين حتى حثّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج المسلم عما يملكه ولا يحتاجه لغيره ممن يحتاجه من المسلمين في حالة الطوارىء ، والمحن ، والنوازل ، وعلى سبيل المثال يمكن الاقتداء بالأشعريين داخل نطاق الأسرة الواحدة كمجموع الأخوة مثلا ، وتعجيل الزكاة لعام ، والسخاء في زكاة الفطر فلا تقف عند عشرة شواقل كما يصرّ بعض الناس على ذلك ، والتقليل من أجرة الشقق السكنية ، والمبادرة بين أبناء الحي الواحد إلى تفقد المعوزين منهم ، والفقراء الذين لا يسألون الناس ، ويحفظون ماء وجوههم ، والعمل بالفقه العملي لنظام النفقات في الشريعة الإسلامية الذي لا نظير له في الشرائع الأخرى ، الذي يبدأ بفقه نفقة المسلم على نفسه ، ثم على من يعول من الزوجة والأولاد ، ثم النفقة على الأصول من الآباء والأجداد ، ثم صلة ألأرحام ، وهذا باب واسع يحتاج على تفصيل ، ولكن يمكن لأبناء شعبنا المسلم أن يستفيد من تجربة قبيلة الأشعريين ، وأن يتخذها قدوة للمبادرة إلى المواساة ، والتكافل ، والتعاون ، واضعا نصب عينيه ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه القبيلة ، فربما جاءت مبادرات مماثلة لمبادرة الأشعريين ، وبطرق مختلفة ، وفي مجالات متنوعة ، تجعل من يبادر إليه يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم : ( فهم مني وأنا منهم ).
والحمد لله رب العالمين

ما يلزم قارىء القرآن من تعظيمه وحرمته

ما يلزم قارىء القرآن من تعظيمه وحرمته
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي 
خطيب المسجد الأقصى المبارك
• لأن المسلم يحرص على قراءة القرآن وتلاوته في كل وقت وحين ، وبخاصة في شهر رمضان المبارك ، فهذه أمور يلزم قارىء القرآن الكريم أن يعمل بها ، وهي أولا : لا يجوز مسّ المصحف إلا لمن  كان طاهرا من الحدثين الأصغر والأكبر ، بأن يكون متوضئا ، وغير جنب ، وكذلك المرأة ألا تكون حائضا أو نفساء ، قال الله تعالى في سور الواقعة (79): (لَا يَمَسُّهُ إِلَاّ الْمُطَهَّرُونَ) ، وهو قول جمهور الفقهاء ومنهم مالك والشافعي ، ثانيا : أن يستعمل معجون الأسنان أو السواك ، لأن الفم طريق من طرق القرآن ، فتطهيرها وتنظيفها يلزم قارئه ، ثالثا : أن يلبس ثياب نظيفة وحسنة ، لأنه بقراءة القرآن يجلس بين يدي ملك الملوك ، رابعا : استقبال القبلة أثناء القراءة ، خامسا : أن يستعيذ بالله عند ابتداء القراءة ، لأن القرآن الكريم كلام طاهر من رب طاهر ، والاستعاذة غسل لما صدر من اللسان من الكلام المحرم واللغو ، وهذا غسل معنوي ، فيقرأ القرآن بلسان طاهر ، سادسا : أن يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم بعد الاستعاذة ، سابعا : أن  يحرص على عدم التثائب ، فإذا تثائب أمسك عن القراءة ، ثامنا : لا يقطع قراءته للحديث مع الناس ، والتكلم معهم من غير ضرورة ، تاسعا : أن يخلو بالقراءة ، يعني : يبتعد عن الناس حتى لا يقطع عليه أحد قراءته ، لأنه عن فعل ذلك زالت الحكمة من الاستعاذة ، عاشرا: أن يقرأة بتؤدة واطمئنان ، يعني بالترتيل والترسيل ، الحادي عشر : التفكر والفهم فيما يتلو ويقرأ ، حتى يفهم ويعقل ما يقرأ من آيات القرآن الكريم ، الثاني عشر : إذا قرأ آية فيها وعد من الله تعالى يقف عندها ويسأل الله من فضله ، مثال : إذا قرأ آية يعد الله بها المسلمين بالجنة أو بالمغفرة ، توقف عن القراءة ، وسأل الله الجنة أو المغفرة ، الثالث عشر : وكذلك إذا  قرأ آية فيها وعيد ، مثل الوعيد بالعذاب أو بالنار ، توقف عن القراءة ، واستعاذ بالله من النار أو من العذاب ، الرابع عشر : أن يقف عن  أمثال القرآن فيمتثلها ، الخامس عشر  : أن يؤدي كل حرف من حروف كلمات القرآن حقها من النطق الصحيح حتى يبرز كلام القرآن تماما واضحا ، السادس عشر : عند الانتهاء من القراءة يُصدٌ الله تعالى ، ويشهد بالبلاغ للرسول صلى الله عليه وسلم ، ويشهد على أن ذلك كله حق ، فيقول : " صدقت ربي ، وبلّغتَ رسلك ، وإنا على ذلك من الشاهدين اللهم اجعلنا من شهداء الحق القائمين بالقسط ، ثم يدعو بما شاء من الدعوات " ، وهذا بدل أن يقول " صدق الله العظيم " عند الانتهاء من القراءة ، السابع عشر : أن يقرأ السورة كلها أو بعضها ، ولا يقرأ من كل سورة بعض آيات ويفرق القراءة في الجلسة الواحدة ، فقد رويَ أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بسيدنا بلال رضي الله عنه وهو يقرأ من كل سورة شيئا ، فأمره أن يقرأ السورة كلها ، الثامن عشر : ألا يضع المصحف منشورا من غير قراءة ، التاسع عشر : ألا يضع كتبا فوق المصحف ، وذلك حتى يظل المصحف عاليا  لحرمته لأته كلام الله تعالى ، التاسع عشر : أن يضعه على  شيء إذا قرأه وهو بين يديه  ولا يضعه كما نرى اليوم على فخذيه ، أو بينهما ،  أو عند قدميه ، كما هو مشاهد من عديد العوام من المسلمين ، العشرون : إذا غسله بالماء أن يتوقى أماكن النجاسات ، والأماكن التي يطأها الناس ، لأن هذه الغسالة لها رحمتها ،  الحادي والعشرون : ألا يمرّ عليه يوم دون النظر في القرآن والقراءة فيه ، فالقرآن مكون من ثلاثين جزءا ، ويمكن للمسلم تلاوة القرآن كاملا في شهر ، إذا خصص لكل جزء من أجزاء القرآن نصف ساعة أو أكثر بقليل ، الثاني والعشرون : أن يقرأ من المصحف ولا يقرأ من البلفون دائما ، وهذا ليس على سبيل المنع ، ولكن حتى يعطي اليد حظها من حمل المصحف ، كما هو يعطي العين حظها من النظر فيه ، ولذلك أيضا نقول : أن لا يقرأ دائما من صدره عن كان حافظا له ، بل لنفس الحكمة يقرأه من المصحف مباشرة ، ففي ذلك عون له على مراجعة وتثبيت ما يحفظه ، فضلا عن فضل النظر في المصحف وحمله ، الثالث والعشرون : ألا يتأوله عندما يعرض له شيء من أمر الدنيا ، مثل أن تقول لشخص جاءك" جئت على قدر يا موسى " أو تعطي شخص شيئا وتقول له " خذها ولا تخف " ، فهذه من الأخلاق الرذيلة لقارئ القرآن ، الرابع والعشرون : ألا يقرأه بلحون أهل الغناء كما يفعل بعض القرّاء اليوم فهذه لحون أهل الفسق ، الخامس والعشرون : أن يبدأ القراءة حين ختمه مباشرة فإذا وصل سورة الناس ، قرأ الفاتحة وأول خمس آيات من البقرة استعدادا لبدء قراءة ختمة جديدة ، وهذا سمّه النبي صلى الله عليه وسلم " بالحال المرتحل "،ملاحظة : معظم ما ذكرته منقول بتصرف من التفسير الجامع للقرآن للقرطبي
والحمد لله رب العالمين

الجمعة، 14 مارس 2025

صفات محمودة مفقودة

صفات محمودة مفقودة
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
من الصفات المحمودة المفقودة في الصائمين خاصة وبين المسلمين عامة ثلاث صفات وهي : الخلق الذي يجب أن يكون ظاهرا في سلوك المسلم حتى يستطيع أن يعيش به بينهم ، والورع الذي يكون درعا واقية له من سهام محارم الله فلا يصيبه منه سهم ، والحِلم الذي به يستطيع أن يضع حلولا آمنة لأعقد المشكلات وهو يشرب فنجانا من القهوة ، وهذه الصفات المحمودة المفقودة ورد ذكرها في حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو: ( ثلاث من كُنّ فيه استكمل الإيمان واستوجب الثواب : خلق يعيش به في الناس ، وورع يحجزه عن محارم الله وحلم يردّ به جهل الجاهل ) ، وهذا الحديث رواه الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ، وهو حديث ضعيف لأن أحد رواته هو عبد الله بن سليمان ، قال البزار : إذا حدث بأحاديث لا يتابع عليها ، وقد ذكرتُ تخريج الحديث والحكم عليه بالضعف قبل شرحه والإفادة منه لسببين ، الأول : لأن من علماء الحديث الشريف من أجاز رواية الحديث الضعيف في فضائل الأعمال ، وهذه الصفات المفقودة التي أتحدث عنها هي من فضائل الأعمال ، ثانيا : ولأن الأخذ بالحديث الشريف يجوز إذا كان مندرجا تحت أصل كلي من أصول الشريعة وليس مكذوبا على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا الحديث الضعيف يندرج تحت أصل كلي من أصول شريعتنا وهو أن الأخلاق الحميدة من أجلها بعث النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) أخرجه البخاري في " ألأدب المفرد " ، وفي رواية ( لأتمم محاسن الأفعال) ، فمكارم الأخلاق التي هي محاسن الأفعال هي من الصفات المفقودة بين الناس اليوم ، فالله سبحانه أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم ليكمل ما انتقص من مكارم الأخلاق ، وهذا دليل على أنها من أولوياته صلى الله عليه وسلم ، وبهذا تكون الصفات المطلوبة في هذا الحديث الذي استدللت به على الصفات المفقودة في مجتمعنا هي من الواجبات الشرعية ، والصفات الواجب على كل مسلم أن يتمثل بها ،وهذه الصفات المفقودة المطلوبة من المسلمين اليوم من اتصف بها استحق مكرمتين عظيمتين هما الأولى : أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بكمال الإيمان في قلبه حين قال استكمل الإيمان ، واستكمال الإيمان هو طوق النجاة للإنسان المسلم في دنياه وآخرته ، وهو أول علامات الصلاح ، والثانية : أن الله تعالى يكتب له الأجر كاملا على اتصافه بهذا الصفات الثلاثة ، ومن كان كامل الإيمان ، وكامل الأجر والثواب عند الله تعالى ، فهو في مرتبة بعد الأنبياء والمرسلين ، لأن أعلى المنازل بعد الأنبياء والرسل هم " السابقون " الذين جاء ذكرهم في سورة الواقعة ، ومنهم الذين سبقوا غيرهم إلى معالي الأمور ، ولا ريب أن الخلق الحسن ، والورع عن محارم الله ، والحلم الذي يرد به جهل الجاهل ، هي تاج معالي الأمور وسيدتها ، وبناء على ما سبق نقف عند هذه الصفات الثلاثة المفقودة في مجتمعنا لعلنا نكون من أهلها ،أو على الأقل من أهل بعضها ، أما الخلق فهو الخلق الذي تستطيع أن تعيش به في الناس ، وهذا متعدد لا يكاد ينحصر بصفة معينة ، فأنت تحتاج إلى هذه الخلق لتعيش به مع نفسك أولا، ثم مع زوجتك وأولادك ، ثم مع جيرانك ، ثم مع الناس حولك أينما كنت في الشارع أو العمل أو في الحافلة وفي كل مكان تكون موجودا فيه ، وبدون هذا الخلق لأن يقبلك من حولك ، وستكون كالشاة الجرباء الكل يتأذى بوجودها ، ويهرب منها ، فهل أنت قادر أيها الصائم الكريم ، وأيها المسلم الحبيب أن تحوز على خلق تعيش به في الناس ؟ إذا استطعت أن تحوز على هذا الخلق فاعلم أن هذا الخلق يؤسس للصفتين اللتين بعدهما وهما : الورع ، والحلم ، لأن من كان عنده خلق يعيش به في الناس ، فسيكون ورعا عما حرم الله تعالى ، وسيكون حليما حين يجهل الناس عليه ، وإلا كيف سيعيش في الناس بخلق لا يتسع لورع ، ولا يتسع لحلم ؟ ! ، وأما الصفة الثانية المفقودة فينا فهي الورع ، وهي الخوف من ارتكاب كل ما حرم الله ، وعدم الجرأة على ما نهى الله تعالى عنه ، وصفة الورع لا نكاد نراها في مجموع الناس ، فكثير مما حرم الله علينا كالربا والتبرج وقطع الأرحام والاعتداء على دماء وأموال وأعراض المسلمين منتشر في مجتمعاتنا كانتشار النار في الهشيم ، فمتى نلبس خلق الورع ، ونتزين بهذا الصفة التي تضفي علينا نورا وبهاء وجمالا ؟ وأما الصفة الثالثة المفقودة وهي صفة الحلم ، فنحن نتصف بنقيضها ، لا يحلم أحدنا على غيره في أبسط الأمور ، وأقل الحالات التي تحتاج إلى الحلم ، فكم من شجار كان بسبب سيارة أو كلمة طائشة ! ورحم الله التابعي الجليل الأحنف بن قيس الذي كان أحلم العرب ، كان جالسا في " ديوانه" فجاء أبنه يحمل أخاه مقتولا ، فسأله من قتل أخاك ؟ قال : ابن عمي ، فألقى الأحنف إلى ابنه كيسا من المال وقال له : خذ هذا المال وأعطه لأمك دية أخيك فإنها غريبة ، واذهب أنت وابن عمك وواريا جثة أخيك ، هذا كان من الأحنف في جاهليته قبل أن يدخل في الإسلام ، فماذا نقول لمن هو مسلم ؟ هل يمكنك تدارك ما فاتك من هذه الصفات فتكون من أهلها ؟ نرجو ذلك!
والحمد لله رب العالمين

الأربعاء، 12 مارس 2025

لا في العير ولا في النفير

لا في العير ولا في النفير
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
العير هي الإبل المركوبة والتي يحمل عليها الطعام وغيره مما يحتاجه الناس ويتاجرون به (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : 9/230) ، وأما النفير فكثرة العدد من العدةّ والعدد من الرجال المحاربين ( المرجع السابق : 10/217) ، وأما هذا القول وهو :" لا في العير ولا في النفير " فقائله " أبو سفيان" بن حرب حين استطاع " النجاة بالقافلة التي كان يقودها من الشام إلى مكة ، حيث سمع الرسول صلى الله عليه وسلم بخبر قدوم هذه القافلة فأراد أن يغنمها من قريش فاستنفر المسلمين فخرج معه مئات من الصحابة الكرام لا يتجاوز عددهم أربعمائة رجل ، فلما أرسل " أبو سفيان " لقريش مخبرا بنجاة القافلة تشاورت قريش فيما بينها ،فأصّرت على الخروج لمقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فخرجت ، وكان من القبائل التي خرجت لقتال النبي صلى الله عليه وسلم قبيلة بني زهرة ، ثم هي في الطريق رأت أنه لا يوجد لها في القافلة الناجية ( العير) شيئا ، فلماذا تقاتل محمدا صلى الله عليه وسلم ؟ فقررت العودة إلى مكة وعدم المشاركة في القتال ، فما رآهم " أبو سفيان " في طريق عودتهم إلى مكة من غير رغبة في قتال المسلمين قال على سبيل الإنكار عليهم والإهانة لهم :" لا في العير ولا في النفير " فذهب قوله مثلا إلى يومنا هذا ، وعند الوقوف عند هذا المثل نرى أنه يضرب في الإنسان السلبي الذي لا دور له في المجتمع من حيث النفع والخير ، وأن مثل هذا الإنسان لا قيمة له عند غيره من أبناء المجتمع ، إذ الأصل أن يكون المسلم خاصة عضوا مؤثرا في المجتمع الذي يعيش فيه ، وفردا منتجا ومعطيا للمجتمع بكل خير يقدر عليه ، ولا يمكن أن نتصور أن في المجتمع المسلم مسلما يحطّ من قدره ومنزلته بسبب قصوره في فعل الخير وهو قادر عليه ، وعلى سبيل المثال لا الحصر فالمسلم في رمضان قد ينطبق عليه هذا المثل وهو " لا في العير ولا في النفير " في عديد الحالات ، أذكر بعضها ثم أنت أخي رعاك الله تقيس عليها الحالات المتبقية ، وهذه الحالات مثل : من يتعمد الإفطار في رمضان ، ويخفي إفطاره كالجرذ ، ومن لا يشارك المسلمين صلاة الجماعة ما استطاع إليها سبيلا ، ومن يضيع ليالي رمضان في السهر الدنيوي ، ولا يشارك جماعة المسلمين صلاة التراويح ، ومن لا يتفقد رحمه ، ويصلهم ، ومن هو غارق في المحرمات كعقوق الأبوين ، وأكل أموال الناس بالحرام ، والاعتداء على حرمات الناس وأعراضهم في شهر رمضان خاصة مع أن نفير الصائمين على قدم وساق في التوبة والاستغفار والعودة إلى الله والإنابة إليه ، فهذا لا في عير الصائمين ولا في نفيرهم ، وإذا أردنا أن نطبق هذا المثل على أمة العرب والمسلمين تجاه قضاياهم المصيرية ، فهم أيضا " لا في العير ولا في النفير " ، بل هم أسوأ حالا من " بني زهرة" لأن " بني زهرة " كانت تمتلك الحجة القاطعة في عدم مشاركة قريش قتال النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، لكن عموم الأمة المسلمة مختلفة عن " بني زهرة " لأن القضايا المصيرية التي تواجهها هي عيرها الذي يجب أن تنهض لحفظه لا أن تستدبره وكأن الأمر لا يعنيها ، بل عير الأمة المسلمة اليوم تقطع أوصالها على مرآى منها دون أن تحرك لها ساكنا ، وأما نفيرها فهو غارق في الاقتتال الداخلي ، وقمع الحريات ، ومشغول في مصالحه الذاتية التي لا تخدم مصالح من نفيرها لأجلهم ، وفي سياق آخر حول هذا المثل :" لا في العير ولا في النفير " ، فإن " بني زهرة " كانت رشيدة في قرارها ، فهي لم تشارك في قتال النبي وأصحابه ، حيث هُزمت قريش في بدر ، وكان ممن قتل منها " أبو جهل" ألذي كان يحمل سُلّم الحماسة للقتال بالعرض، فكان مصيره الخسارة في الدنيا والآخرة ، وكان مصير " بني زهرة" النجاة في الدنيا ، ودخول من دخل منهم في الإسلام ليفوز بالنجاة في الآخرة ، فكان العزوف عن النفير رشد منهم ونجاة لهم ، وأما من أنزلنا بهم المثل من المسلمين في شهر رمضان من جهة ، ومن الأمة المسلمة من جهة أخرى ، فهؤلاء لا رشد في تصرفاتهم ، ولا نجاة لهم إن لم يستدركوا ما فاتهم من العير ، ولم يلبوا حاجتهم من النفير ، للطاعات التي فرضها الله عليهم ، وأوجبها عليهم دينهم الإسلام ، ثم إن العير المحمّلة بأموال قريش و بالتجارات الرابحة نجا بها " أبو سفيان" بفطنته ودهائه ، وسلمت لأهلها ولأصحابها ، أما عير المسلمين اليوم من الذين أضاعوها في شهر رمضان ، ومن الذين فرّطوا فيها من المسلمين عامّة ، فهي من أفضل التجارات وأربحها ، لأنها تجارة مع الله ، وتجارة مع دين الله ، وتجارة مع مقدرات الأمة ،وتجارة مع تاريخها ، وأمجادها ، وسمعتها ، وشرفها ، وبذلك فهي تجارة لا تبور ، ومع كل هذا فإننالا نملك في هذا المقام إلا أن نقول لهؤلاء وهؤلاء كما قال يوسف عليه السلام : ( أيتها العير إنكم لسارقون ) يوسف (70)
والحمد لله رب العالمين

ركائز النجاة

ركائز النجاة
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي 
خطيب المسجد  الأقصى المبارك 
هل تعلم أن ركائز النجاة في الدنيا والآخرة أربعة أمور وهي : الإيمان ، والشكر ، والتوبة ، والاستغفار ،فربنا تعالى ذكره يقول:( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ)سورة النساء :(147) ،فالله سبحانه لا يعذب شاكرا مؤمنا ، قال التابعي مكحول رضي الله عنه : ( أربع من كُنّ فيه كُنّ له ، وثلاث من كُنّ فيه كُنّ عليه ، أما الأربع فالشكر والإيمان والدعاء والاستغفار ، وأما الثلاث التي عليه : فالمكر والبغي والنكثُ ) انظر القرطبي : 5( /427) ، وقال الله تعالى : (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)سورة الأنفال (33) ، أما الإيمان أيها الصائم الكريم فهو شرط قبول  صيامك ، وهو شرط قبول الأعمال من الإنسان فلا يقبل عمل صالح من كافر حتى يدخل في دين الإسلام ، والإيمان كما عرّف العلماء هو : " ما وقرَ في القلب ، ونطق به اللسان ، وصدّقته الجوارح " ، ولذلك كان الإيمان هو أول ركائز النجاة في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فيعصم دمك إلا بحق الإسلام ، وأما في الآخرة فهو أول باب يفتح لك من أبواب الجنة حتى تلجها ، وأما الشكر ثاني ركائز النجاة فيكون باللسان والجوارح والقلب ، وهو بهذا يكون بإظهار نعمة الله عليك بلسانك اعتراف بهذه النعمة التي منّ الله بها عليك ، ووفي قلبك بالإقرار بها ، وبجوارحك أن تستخدم هذه الجوارح كاليد واللسان وغيرهما في طاعة الله وكما أمر الله فلا تعمل بجارحة منه معصية ، بل تكون هذه الجوارح دائما متحفزة لطاعة ربها الذي خلقها ، ومنّ بها عليك ، وأما التوبة الركيزة الثالثة للنجاة فهي أن تترك ذنبك لقبحه فلا يليق بك أن تقترف ذنبا وتعصي ربك الذي أنعم عليك بنعمة الحياة والجسد ، فيجب أن تندم على ما صدر عنك من معاصٍ وذنوب ، وأن تعزم بنية صادقة عن الرجوع عنها وعدم العودة إليها ، ولا تصحّ منك توبة إذا كانت تتعلق بحقوق العباد حتى تردّ الحقوق إلى أصحابها فهذه هي التوبة النصوح من حقوق العباد التي اجترأت عليها وأخذتها منهم ظلما وعدوانا ، وأما الركيزة الرابعة للنجاة فهي الاستغفار ، وهو أن تطلب من الله تعالى أن يستر ذنوبك فلا يفضحك بها ، ولا يعاقبك عليها ، واستغفارك يكون من الله ، ويكون لك ، ويجوز أن تستغفر لغيرك ، وحتى يقبل منك استغفارك يجب أن يكون مرتبطا بالتوبة والعمل الصالح ، وقد جاءت نصوص شرعية عديدة تتحدث عن التوبة والاستغفار منها قول  الرسول صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم) ، وهذا الحديث كان يكتمه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه ، ولم يخبرنا به إلا حينما حضرته الوفاة وقال: ( كنت كتمت عنكم حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوف أحدثكموه وقد أحيط بنفسي) ، وعليه فنحن أمة لا تقنت ولا تيأس من رحمة الله ، ولو بلغت ذنوبنا عنان السماء ،  لأننا نؤمن أن الله يغفر الذنوب جميعا ، تصوروا أن المذنب من أمة محمد صلى الله عليه وسلم هو من المتقين ، وأن المرتكب للفاحشة من المتقين إن تاب إلى الله وأناب ، هذا قول ربنا وليس قولي ، اسمعوا : (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون)، ونحن نعلم أنه  لا عصمة من الذنوب والخطايا إلا للرسل ،أما غيرهم ا فهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، وباب الرجاء مفتوح للمذنب ، يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم)، فالزم الاستغفار والتوبة ، واجعل لهما مكانة على لسانك وفي  قلبك كي تنجو ، وكلما أذنبت ذنبا ، قم وتوضأ ، وصلِّ صلاة التوبة ، إذا كنت لا تعرفها فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني- وصدق أبو بكر- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يذنب ذنبًا فيتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له) ، تب واستغفر ، يزول كربك ، ويفرج همّك ، وترزق من حيث لا تحتسب ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا ومن كل هم فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب) ، هذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي من الليل ثم يلتفت إلى نافع ويقول: يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال نعم: أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح، واعلم رعاك الله أن الاستغفار لك أمان،فقد قال الله تعالى :(وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) ، وقال رسولنا صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليّ أمانين لأمتي ، وما كان الله يعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ،  فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة) .
والحمد لله رب العالمين

الثلاثاء، 11 مارس 2025

مهارات الصيام

مهارات الصيام
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى
للصوم في شهر رمضان خاصة ثلاث مهارات ،وهي مهارات على المسلم أن يتعلمها ويتقنها في كافة أوقاته وسنوات عمره ، فإذا أتقنها المسلم نجح وأفلح في صيامه ،وحقق إيمانه ، قولا وعملا ، وإن لم يتقنها أظنه خاسر ، وفاته خير كثير ، فرمضان دورة تدريبية ربانية لكل مسلم في كل عام ، ليتخرج منها بشهادة عملية تؤهله لتحقيق وظيفة استخلافه في الأرض التي خلقه الله من أجلها ، وهذه المهارات الثلاثة هي : أولا : مهارة تدريب عقله على معرفة أحكام الشريعة الخاصة بالصيام من جهة ، والأحكام الشرعية المتعلقة بشكل عام ، وهو ينطلق بهذه المهارة من قوله تعالى (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)، ومما يحزن القلب أن المسلمين يدخل عليهم رمضان ويخرج وهم يسألون عن أحكام الصيام ، وكذلك يدخل عليهم رمضان ويخرج من عندهم ، ولم يتعلموا بشكل عملي مهارة التعامل مع غيرهم من المسلمين أقارب وجيران وأصدقاء ، مع أن هذا الشهر هو فرصة ثمينة لتعلم هذه المهارة ، ثانيا : مهارة تقوية الجسم ، ولا يتفطن الصائمون في رمضان إلا إلى جزء من هذه المهارة وهي مهارة إشباع البطن ، وحتى مهارة إشباع البطن لا يتقنوها فيملأون البطون بالطعام والشراب ، ولا يتركون مجالا للنَفَس والهواء ، وأما الجزء المتبقي من مهارة تقوية الجسم فهي تكاد معدومة ، كتدريب الجسم على الحركة ، والصحة ، والعمل النافع ،ثالثا: خلاء بطنك في شهر رمضان من الطعام له مهارة ثالثة ومن فوائدها :أنك تجوع امتثالا لأمر الله تعالى بالإمساك عن الطعام والشراب ، وهو جزء من التقوى ، فقد ذكر القرطبي في تفسيره أن من معاني ( لعلكم تتقون) : لعلكم تضعفون ، فالمسلم حين يقلل من الطعام أثناء صيامه يضعف ولا يسمن ، ولهذا عدة فوائد منها :الأول: الحفاظ على الجسم من الأمراض ، كالضغط والسكري والسمنة وغيرها ، ثانيا : النشاط والفطنة ، فخلّو المعدة من الطعام ، تؤدي إلى نشاط الإنسان ، ويزيد من فطنته ، بعكس البطنة ، فإن الإنسان إذا امتلآ بطنه ، ذهب نشاطه ، وقلّت فطنته ، ويتضح لنا هذا المفهوم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم (ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن)، فالبطن إذا امتلآ بالطعام والشراب ، ضغط هذا كله على الصدر والقلب ، فيمرض الصدر بما يسمى " الارتجاع المرييء" ، ويمرض القلب فيصدأ كما يصدأ الحديد ، فلا يكاد يفقه حديثا ، ولا يكاد يعتبر بما يمرّ عليه ، وقديما قالوا ( البطنة تذهب الفطنة) ، وقال سيدنا عيسى عليه السلام " يا بني إسرائيل.:لا تأكلوا كثيرا، فتشربوا كثيرا، فتناموا كثيرا فيفوتكم خير كثير" ، ثالثا : الشعور بالفقراء الذين لا يجدون طعاما يأكلونه ويشبعون منه ، وهذا المعنى غير متحقق عند كثير من الناس الذين يصومون ، لأنهم يملأون بطونهم عند السحور وعند الإفطار ، فمتى يجوع هؤلاء؟ ومتى يشعرون بغيرهم الجوعى ؟ لقد رأينا الناس في غزة يعانون من الجوع ، وعرفنا بالرؤيا والمشاهدة حقيقة الحرمان من الطعام والشراب ، وتأكد لنا حكمة خلاء بطن الصائم من الطعام والشراب أثناء الصيام وبخاصة في شهر رمضان ، فما هو المطلوب من المسلمين الصائمين في شهر رمضان ؟ الجواب : أولا : الترشيد في كمية الطعام ،الثاني : حفظ النعمة بعدم إلقاء ما تبقى من الطعام في النفايات ، بل إعادة جمعه وحفظه والتصدق به على العائلات المستورة ، أو المراكز المحلية المحتاجة إليه ،الثالث: أو من خلال صلة الأرحام حين الترشيد في النفقة على الطعام ، بدفع جزء من المال المدخر للطعام في رمضان لبعض الأرحام ، مما يزيد في التواد ، والتكافل ، والمحبة ، والأجر لباذل المال المشار إليه ، مع التنبيه إلى أن الطعام والشراب الذين يأكله الصائم هو عياله مصيره الزوال والفناء ، وأن ما يبذله للناس من طعام أو مال ، هو الذي يُدّخر له ويحفظ عند الله تعالى ، وبه يدفع الله عنه البلاء ، رابعا :مهارة تزكية النفس ، وهي تحتاج إلى بصيرة من المسلم ، فيعرف طرق الخير لتزكية النفس ليزكيها ، ويعرف طرق الشر فيجتنبها تزكية لنفسه ، فمهارة تزكية النفس تكون بالطاعة حينا ، وتكون بمعرفة المعصية واجتنابها حينا آخر ، ولقد تعلم الصحابة هذه المهارات ، فأخذوا بمهارة تدريب العقل عن طريق تلقي العلم النافع من النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان لهم أن جمعوا علم الدين والدنيا ، فسادوا وملكوا وعزّوا ، وتعلموا مهارة تربية البدن ومن ذلك صبرهم على حصار الشعب في مكة ثلاث سنيين فخرجوا أقوى وأشد وأصلب عودا ، وتعلموا مهارة تزكية النفوس ، ومن الأمثلة على ذلك أنهم كانوا رهبانا في الليل ، فرسانا في النهار ، وكانوا يتلقون الوحي من النبي صلى الله عليه وسلم للعمل به وليس للمراء والجدال كما هو حال عديد المسلمين في هذا الزمان ، وينبثق عن هذه المهارات الثلاثة مهارات كثيرة هي شعب الإيمان على كل مسلم أن يكون له الحظ الوافر منها ، كمهارة قيام الليل ، ومهارة الصدقة ، ومهارة صلة الرحم ، ومهارة العفو عن الزلات ، وغيرها من المهارات ، التي ينبغي أن تكون حاضرة في حياة المسلم في رمضان وسائر شهور السنة
والحمد لله رب العالمين

اعرف حقيقة التقوى

رقائق إيمانية
اعرف حقيقة التقوى
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
بعيدا عن عديد التعريفات للتقوى المشهورة بين المسلمين، أبين لهم في هذه المقالة أصالة التقوى ، والأركان التي تقوم عليها ، وهذه الأصالة والأركان ذكرها الله سبحانه في ثلاث جمل وست كلمات في سورة الأعراف الآية (199) وهو قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)،فالآية الكريمة تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات المطلوبة من المسلم ، وقواعد الشريعة في المنهيات الواجب على المسلم الانتهاء عنها مطلقا ، وهذه القواعد من المأمورات والمنهيات هي أركان التقوى ، لأن المعنى الأصيل للتقوى يقوم على فعل المأمورات ، واجتناب المحظورات ، وعدم الوقوع في المحرمات ، فمن فعل المأمورات ، واجتنب المحظورات ، ولم يقع في المحرمات ، أصاب حقيقة التقوى ، ثم إن التقوى درجات ، وبهذه الدرجات فكل مسلم تقي ، ولكن درجته من التقوى بمقدار ما يؤدي ما وجب عليه من المأمورات ، وبمقدار ما يجتنب المحرمات والمحظورات ، فإذا قصّر مسلم في ما أمره الله به ثم تاب وقام به بعد تقصيره ، أو أصاب حراما ، أو فعل محظورا ، ولو كان فاحشة ، ثم تاب واستغفر ، وأقلع عن فاحشته ومعصيته ، فهو من المتقين ولكن بدرجة أدنى ممن سبقه إلى التقوى بمكوناتها التي ذكرتها آنفا ، والشاهد لما أقول قوله تعالى في سورة آل عمران آية (135): (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، فهذه الآية ذكرت التوابين من معاصيهم من المسلمين فإن الله سبحانه يلحقهم بالمتقين الذين ذكرتهم الآيات التي سبقت هذه الآية ، وبالعودة إلى الآية الكريمة التي ابتدأنا بها هذه المقالة ، والتي بينت أصالة التقوى وأركانها ، نذكر بعض المأمورات وبعض المنهيات الدالة على التقوى ، فقوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) تضمن كل خلق مأمور به المسلم مثل : صلة من قطعك ، والعفو عمن أذنب بحقك ، والرفق بالمسلمين حولك ، وقوله تعالى (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) تضمن الأمر بصلة الأرحام ، والأمر بتقوى الله في الحلال والحرام ، والأمر بغض البصر ، وأن يعدّ المسلم نفسه من الموتى ، بمعنى : أن يجهز نفسه للرحيل من الدنيا بالتزود للآخرة من كل عمل صالح ، وأما المنهيات في قوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) فقد تضمن الإعراض عن الظلمة أو العمل معهم والسير على طريقتهم ، وأن يتنزه المسلم عن مجاراة كل سفيه ، وأن يبذل جهده في التعلم والبعد عن الجهل وأسبابه ، وبالجملة فميزان التقوى الأخلاق الحميدة ، والأفعال الرشيدة ، وهذه كلها تحتاج إلى شرح موسع لا يتسع له المقال هنا ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم جمع هذه الخصال لجابر بن سُليم حيث قال جابر : "رَكِبْتُ قَعُودِي ثُمَّ أَتَيْتُ إِلَى مَكَّةَ فَطَلَبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنَخْتُ قَعُودِي بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَدَلُّونِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ بُرْدٌ مِنْ صُوفٍ فِيهِ طَرَائِقُ حُمْرٍ، فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ:" وَعَلَيْكَ السَّلَامُ". فَقُلْتُ: إِنَّا مَعْشَرُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، قَوْمٌ فِينَا الْجَفَاءُ، فَعَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا. قَالَ:" ادْنُ" ثَلَاثًا، فَدَنَوْتُ فَقَالَ:" أَعِدْ عَلَيَّ" فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: (اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَأَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي وَإِنِ امْرُؤٌ سَبَّكَ بِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْكَ فَلَا تَسُبُّهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ أَجْرًا وَعَلَيْهِ وِزْرًا وَلَا تَسُبَّنَّ شَيْئًا مِمَّا خَوَّلَكَ اللَّهُ تَعَالَى (. قَالَ أَبُو جُرَيٍّ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ شَاةً وَلَا بَعِيرًا" رواه البزار في مسنده بمعناه ، وانظر أخي رعاك الله كيف التزم جابر بن سليم بما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم به ، وهذا هو الذي ينقصنا في هذا الزمان ، وهو أننا نعرف حقيقة التقوى ، وأصالتها ، وأركانها ، لكننا – للأسف – لا نعمل بها - ، فكيف إذن نحقق حكمة صيامنا في شهر رمضان خاصة من التقوى ، ونحن نعلم ولا نعمل ، وهذا الخلق وهو ترك العمل مع العلم هو خلق مخالف للتقوى من جذرها ؟ وإذا كان الصائم لا يحقق التقوى من صيامه بالمعاني المذكورة فمن الطبيعي جدا أن لا تشمل رقبته العتق من نار جهنم ، وأن تغلق أبواب السماء في وجه دعوته فلا يستجاب له ، ولعل من المهم جدا هنا ونحن نتكلم عن أصالة التقوى وأركانها ، أن نذكر أبناء مجتمعنا الفلسطيني الذين ضاقت أخلاقهم ، وطاشت أحلامهم ، فكثر نزاعهم ، وشجاراتهم ، أن نذكرهم بما رواه البخاري عن عبد الله بن الزبير في قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ)قال : " ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس" ، وقال جعفر الصادق : " أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق في هذه الآية ، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية " ، وكلنا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) أخرجه البزار (8949) ، فمن أراد أن يكون تقيا حقا وصدقا فليأخذ بنصح النبي صلى الله عليه وسلم وهو إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق ) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان
والحمد لله رب العالمين

الأحد، 9 مارس 2025

التكافل بين الصائمين

رقائق إيماني
التكافل بين الصائمين
الدكتور محمد سليم محمد علي
 خطيب المسجد الأقصى المبارك
لو فرضنا التكافل إنسانا وسألناه من أحق المسلمين بالتكافل اليوم لقال لنا قول الواثق : أحقهم بالتكافل الشعب الفلسطيني ، تكافلهم فيما بينهم من جهة ، وتكافل عامة المسلمين في كافة الأقطار معهم من جهة أخرى ، ذلك أن مصاب هذا الشعب جلل ، ومتدحرج مثل كرة الثلج يزيد حجمها بتدحرجها ، فمن معاني الكفالة الشاهد والرقيب ، والحافظ ، والضامن ، كما قال القرطبي عند قوله تعالى في سورة النحل (91) : (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) ، انظر : الجامع لأحكام القرآن (10/170) ،فمن عرف حال شعبنا في كافة المحافظات ، وراقبها بعين المبصر الفطين ، تأكد أن هذا الشعب يحتاج إلى حافظ له مما ينزل به من المصائب ، وإلى ضامن يضمن له خروجه مما يعتريه من ألوان الابتلاءات والكربات ، وهذه الكفالة بهذه المعاني هي من أصول ديننا الحنيف ، ومن ركائز العلاقات بين أبناء المجتمع المسلم ، ولا تقتصر على مجموع الأفراد بل تشمل الحكام أيضا ، فهؤلاء جميعا يجب أن ينهضوا لتحقيق التكافل مع أبناء شعبنا ، التكافل المادي ، والتكافل المعنوي ، وقد أقام القرآن الكريم هذا التكافل بين المسلمين على قاعدة رئيسة وهي قوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) سورة المائدة (2) ، وأقامه النبي صلى الله عليه وسلم على عدة ركائز أهمها ما رواه البخاري عنه في كتاب الأدب :( ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) ، وإذا كان التكافل هو الحالة العامة التي يجب أن تسود المجتمع المسلم ، فإنه يجب أن يكون الحالة الخاصة التي يجب أن تظهر بين الصائمين في شهر رمضان المبارك ، ويمكن ذكر بعض صور التكافل بين الصائمين في المجتمع الفلسطيني خاصة ومنها : أولا : التكافل المالي وله عديد الصور منها : الزكاة ، وهي الحق الواجب في المال البالغ للنصاب إذا حال عليه الحول الهجري ، وكان زائدا عن الحوائج الأصلية ، وإذا أردنا أن ننزل شعبنا الفلسطيني على مصارف الزكاة الستة من الأصناف الثمانية لوجدناها تستوعبه ، وأنها تتوزع على فئاته المختلفة ، فمن أبناء شعبنا من يقع تحت وصف الفقير والمسكين ، ومنهم من هو من الغارمين ، ومن الأسير الذي يمكن أن يتحقق فيه وصف ( الرقاب) ، واليوم منهم من هو ابن السبيل وفي سبيل الله ، قال الله فيمن يستحق صرف الزكاة إليه في سورة التوبة (60) : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، وعليه فإن الزكاة باب من أبواب التكافل فرضه الله على الأغنياء ، ولو فقه هؤلاء الأغنياء فقه إخراج زكاة أموالهم لكفت عديد الأسر من أسر مجتمعنا الفلسطيني ، ثانيا : كفالة اليتامى ، ورعاية الأطفال ، الكفالة المادية والمعنوية ،قال الله تعالى في سورة الضحى (9) : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) ، فرفع الظلم عن اليتيم وإعطاؤه حقه صورة من كفالته ، وقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الكفالة حتى جعل فاعلها رفيقه في الجنة فجاء في الحديث الذي رواه البخاري : ( أنا وكافل اليتيم في الجنة ) ، ثالثا : وفي شهر رمضان يجب التفطن إلى رعاية وكفالة المطلقات والأرامل اللواتي لا معيل لهن ينفق عليهن ، قال الله تعالى في سورة الطلاق (6): (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) ، رابعا : كفالة المنكوبين ، وقد وردت في كفالتهم عدي الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة ، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم : (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من ركب يوم القيامة ) ، وروى الطبراني في الأوسط : ( أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن ، كسوتَ عورته ،أو أشبعت جوعته ، أو قضيت له حاجة ) ، فهذان الحديثان الشريفان يذكران صورا عديدة لإغاثة المنكوبين ، والتي يمكن لأي مسلم ، وأي صائم يرغب أن يكون له منزلة عند الله تعالى أن يعمل بأي صورة منها يقدر عليها ، وهي كما نرى يحتاجها العديد من أبناء شعبنا في ظل هذه الظروف الراهنة ، خامسا : يمكن أن تكون صدقة الفطر صورة من صور التكافل التي تسدّ ثغرة في حاجات المعوزين والمحتاجين ، مع العلم أن من مقاصد صدقة الفطر التكافل بإدخال السرور والكفاية على الفقراء والمساكين ليلة العيد وفي يومه ، سادسا : ولعل التكافل بصورة " الإيثار " هو أهم صورة نحتاجها اليوم في مجتمعنا الفلسطيني ، هذه الصورة الغائبة تماما عن مجتمعنا والتي في مقدمتها تفاني المسلمين في خدمة بعضهم البعض ، وإلقاء حظوظ نفوسهم خلف ظهورهم ، وقد كانت هذه الصورة قائمة بين المهاجرين والأنصار ، وهي التي أقامت المجتمع في المدينة المنورة على أساس قوي ومتين ، ولا ريب أننا اليوم نعيش حالة المهاجرين والأنصار ، فمن منا يبادر ويكون أنصاريا أو يتشبه بهم على الأقل ؟
والحمد لله رب العالمين

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More