تعديل

الخميس، 2 يناير 2025

رقائق إيمانية روح الروح

رقائق إيمانية

"روح الروح "
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
جملة " روح الروح" اجتاحت القلوب ، وطارت بين الناس ، كالنحلة أينما حلّت أعطت لذيذ شهدها ، بعد أن كانت استقت من معينه رحيقه بعد جهد ونَصَب ، "فأبو ضياء" زرع بجملته " روح الروح " قواعد للكرامة الإنسانية ، التي تربّى عليها منذ نعومة أظفاره من كتاب الله تعالى ، ومن سُنَة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فالروح هي علامة حياة الإنسان ، وبدونها يكون الموت ، قال الله في هذا المعنى للروح : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)، قال القرطبي في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن : (وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إِلَى أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ حَيَاةُ الْجَسَدِ)، فالشيخ " أبو ضياء –رحمه الله تعالى – بجملته المشهورة تلك ، رسم لنا معالم للكرامة الإنسانية ، والتي يمكن أن نضع بعضها هنا وهي :أولا : أن حياة الإنسان غالية ، لأنها من الضروريات الخمس التي جاءت الشرائع السماوية تؤكد عليها في حياة البشر ، وأولها : حفظ حق الحياة للإنسان ، فالحياة روح ، وبالاعتداء عليها اعتداء على أول كرامة للإنسان ، ولئن كان " لقابيل" سبق سُنّة القتل بغيا وحسدا وعدوانا بغير ذنب أو حق مشروع ، فإنه ينبغي للناس جميعا أن يضعوا حدّا لهذه الجريمة ، من خلال التزام ما جاءت به الشرائع السماوية أولا ثم الشرائع البشرية التي تحفظ للإنسان كرامته وحقه في الحياة ، ثانيا : من قواعد الكرامة الإنسانية تلك الوشائج القائمة على رابطة الدم ، والتي أصّلتها الشريعة الإسلامية ومنها القرابة بين الأصول والفروع ، وأنها قرابة تقوم على التكافل بينهم ، وقصد " أبو ضياء" بقوله " روح الروح " حفيدته الطفلة الشهيدة ، وابن الابن ،أو ابنة الابن ، أو ابنة الابنة هي " روح الروح " وهي ما نُعبّر عنه في المثل الشعبي عندنا " ما أغلى من الابن إلا ابن الابن " ، ولذلك كان حزنه عليها شديدا ، لأنه قطعة منه ، وجزء من لحمه ودمه ، لأنها ابنة ابنه ، وهذه صورة من صور التكافل في المجتمع الإسلامي ، فالأقارب في ديننا الإسلام ثلاثة أنواع : الأصول ، وهم : الآباء والأجداد ذكورا وإناثا ، والفروع ، وهم : الأبناء وأبناؤهم وإن نزلوا ، ثم الحواشي أو أولوا الأرحام ، وهم الأقارب غير الأصول والفروع ، وفي شريعتنا ، تجب نفقة الأصول على الفروع ، ونفقة الفروع على الأصول حين يحتاجون إلى النفقة ، بل ويجبرون عليها وإن قصّروا فيها ، وقد أعطانا " أبو ضياء " درسا عمليا في التعرف إلى درجة القرابة هذه وأهميتها حين وصف حفيدته بقوله : " روح الروح " ، فالجدّ هو بمنزلة الأب ، ولهذا قال الله في القرآن الكريم : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) ، وإبراهيم هو أبو العرب قاطبة ، "وعليه " فروح الروح " هم أيضا الأقارب من الأصول ومن الفروع ، الذين يجب علينا كمسلمين أن نراعي حقوقهم علينا ، سواء الحقوق المعنوية ، أو الحقوق المادية ، وما نراه من تفكك بين أرحام المسلمين صورة غير مقبولة ، وتتنافى مع الشعار الذي علّمنا إياه " أبو ضياء" رحمه الله تعالى ، وهو أن أقاربنا من أصولنا وفروعنا هم " روح الروح " ثالثا : احتفظ " أبو ضياء" بحلق حفيدته ، وقال أنه سيضعه على صدره ليضل يتذكرها ، وهذا أيضا أصل من أصول الكرامة الإنسانية للميت حين يموت ، فإن له علينا حقوقا كثيرة ، ومنها أننا نتذكره بالاستغفار والدعاء له ، والصدقة عنه ، ونتذكره بين الناس بسيرته الحسنة ، ليبقى أثره موجود بيننا ، فهذه الطفلة الشهيدة لا أثر لها يمكن حفظه إلا حلقها ، أما غيرها من أمواتنا ممن هم " روح الروح" فآثارهم عديدة ، ينبغي لنا أن نحتفظ بها كي تظل ذكراهم بيننا ، ولقد كان العرب على جاهليتهم يتذكرون أمواتهم بالخير حتى قال الله عنهم : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) ، فكانت بعض أحياء العرب يتكاثرون بالأموات فيقولون منا فلان ، ومنا فلان ، يعددون موتاهم ومآثرهم ، ولقد أعجبتني قصة زوجة صالحة مات زوجها ، أرادت أن يبقى لزوجها ذكر يومي بين أبنائها بعد موته ، وكان من عادة زوجها في حياته أن يضع النقود في معطف خاص له في الخزانة ، فإذا طلب منه أولاده نقودا قال لهم : خذوا من المعطف ، فظلت الزوجة تضع في ذلك المعطف النقود بعد موت زوجها ، وكلما احتاج الأبناء النقود تقول لهم : خذوا من معطف أبيكم ، رابعا : بعد دفن " أبو ضياء " حفيدته" أعطانا درسا من دروس الكرامة الإنسانية الخاصّة بالمسلم الذي ملأ الإيمان قلبه ، فعبّر عن رضاه المطلق بقضاء الله وقدره ، وأن مصابهم في "غزة" هو قدر الله الذي يرضونه ويسلّمون له تسليما مطلقا ، وأنهم لا يلومون المسلمين حولهم في كافة أنحاء الدنيا فهو يعذرهم ، ويراعي ظروفهم ، ولكنه يطلب منهم الدعاء ، لأن الدعاء في النوازل جزء من التكافل بين المسلمين ، وأن الدعاء وقت الكرب والبلاء من الضعفاء الذين لا حيلة لهم مستجاب من الله تعالى ، وهذه هي " الروح " التي ينبغي على المسلمين في كافة أنحاء الدنيا أن يتصفوا بها ، فهي بالنسبة لهم وقت النوازل " روح الروح ".
والحمد لله رب العالمين

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More