تعديل

الأربعاء، 12 مارس 2025

لا في العير ولا في النفير

لا في العير ولا في النفير
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
العير هي الإبل المركوبة والتي يحمل عليها الطعام وغيره مما يحتاجه الناس ويتاجرون به (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : 9/230) ، وأما النفير فكثرة العدد من العدةّ والعدد من الرجال المحاربين ( المرجع السابق : 10/217) ، وأما هذا القول وهو :" لا في العير ولا في النفير " فقائله " أبو سفيان" بن حرب حين استطاع " النجاة بالقافلة التي كان يقودها من الشام إلى مكة ، حيث سمع الرسول صلى الله عليه وسلم بخبر قدوم هذه القافلة فأراد أن يغنمها من قريش فاستنفر المسلمين فخرج معه مئات من الصحابة الكرام لا يتجاوز عددهم أربعمائة رجل ، فلما أرسل " أبو سفيان " لقريش مخبرا بنجاة القافلة تشاورت قريش فيما بينها ،فأصّرت على الخروج لمقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فخرجت ، وكان من القبائل التي خرجت لقتال النبي صلى الله عليه وسلم قبيلة بني زهرة ، ثم هي في الطريق رأت أنه لا يوجد لها في القافلة الناجية ( العير) شيئا ، فلماذا تقاتل محمدا صلى الله عليه وسلم ؟ فقررت العودة إلى مكة وعدم المشاركة في القتال ، فما رآهم " أبو سفيان " في طريق عودتهم إلى مكة من غير رغبة في قتال المسلمين قال على سبيل الإنكار عليهم والإهانة لهم :" لا في العير ولا في النفير " فذهب قوله مثلا إلى يومنا هذا ، وعند الوقوف عند هذا المثل نرى أنه يضرب في الإنسان السلبي الذي لا دور له في المجتمع من حيث النفع والخير ، وأن مثل هذا الإنسان لا قيمة له عند غيره من أبناء المجتمع ، إذ الأصل أن يكون المسلم خاصة عضوا مؤثرا في المجتمع الذي يعيش فيه ، وفردا منتجا ومعطيا للمجتمع بكل خير يقدر عليه ، ولا يمكن أن نتصور أن في المجتمع المسلم مسلما يحطّ من قدره ومنزلته بسبب قصوره في فعل الخير وهو قادر عليه ، وعلى سبيل المثال لا الحصر فالمسلم في رمضان قد ينطبق عليه هذا المثل وهو " لا في العير ولا في النفير " في عديد الحالات ، أذكر بعضها ثم أنت أخي رعاك الله تقيس عليها الحالات المتبقية ، وهذه الحالات مثل : من يتعمد الإفطار في رمضان ، ويخفي إفطاره كالجرذ ، ومن لا يشارك المسلمين صلاة الجماعة ما استطاع إليها سبيلا ، ومن يضيع ليالي رمضان في السهر الدنيوي ، ولا يشارك جماعة المسلمين صلاة التراويح ، ومن لا يتفقد رحمه ، ويصلهم ، ومن هو غارق في المحرمات كعقوق الأبوين ، وأكل أموال الناس بالحرام ، والاعتداء على حرمات الناس وأعراضهم في شهر رمضان خاصة مع أن نفير الصائمين على قدم وساق في التوبة والاستغفار والعودة إلى الله والإنابة إليه ، فهذا لا في عير الصائمين ولا في نفيرهم ، وإذا أردنا أن نطبق هذا المثل على أمة العرب والمسلمين تجاه قضاياهم المصيرية ، فهم أيضا " لا في العير ولا في النفير " ، بل هم أسوأ حالا من " بني زهرة" لأن " بني زهرة " كانت تمتلك الحجة القاطعة في عدم مشاركة قريش قتال النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، لكن عموم الأمة المسلمة مختلفة عن " بني زهرة " لأن القضايا المصيرية التي تواجهها هي عيرها الذي يجب أن تنهض لحفظه لا أن تستدبره وكأن الأمر لا يعنيها ، بل عير الأمة المسلمة اليوم تقطع أوصالها على مرآى منها دون أن تحرك لها ساكنا ، وأما نفيرها فهو غارق في الاقتتال الداخلي ، وقمع الحريات ، ومشغول في مصالحه الذاتية التي لا تخدم مصالح من نفيرها لأجلهم ، وفي سياق آخر حول هذا المثل :" لا في العير ولا في النفير " ، فإن " بني زهرة " كانت رشيدة في قرارها ، فهي لم تشارك في قتال النبي وأصحابه ، حيث هُزمت قريش في بدر ، وكان ممن قتل منها " أبو جهل" ألذي كان يحمل سُلّم الحماسة للقتال بالعرض، فكان مصيره الخسارة في الدنيا والآخرة ، وكان مصير " بني زهرة" النجاة في الدنيا ، ودخول من دخل منهم في الإسلام ليفوز بالنجاة في الآخرة ، فكان العزوف عن النفير رشد منهم ونجاة لهم ، وأما من أنزلنا بهم المثل من المسلمين في شهر رمضان من جهة ، ومن الأمة المسلمة من جهة أخرى ، فهؤلاء لا رشد في تصرفاتهم ، ولا نجاة لهم إن لم يستدركوا ما فاتهم من العير ، ولم يلبوا حاجتهم من النفير ، للطاعات التي فرضها الله عليهم ، وأوجبها عليهم دينهم الإسلام ، ثم إن العير المحمّلة بأموال قريش و بالتجارات الرابحة نجا بها " أبو سفيان" بفطنته ودهائه ، وسلمت لأهلها ولأصحابها ، أما عير المسلمين اليوم من الذين أضاعوها في شهر رمضان ، ومن الذين فرّطوا فيها من المسلمين عامّة ، فهي من أفضل التجارات وأربحها ، لأنها تجارة مع الله ، وتجارة مع دين الله ، وتجارة مع مقدرات الأمة ،وتجارة مع تاريخها ، وأمجادها ، وسمعتها ، وشرفها ، وبذلك فهي تجارة لا تبور ، ومع كل هذا فإننالا نملك في هذا المقام إلا أن نقول لهؤلاء وهؤلاء كما قال يوسف عليه السلام : ( أيتها العير إنكم لسارقون ) يوسف (70)
والحمد لله رب العالمين

ركائز النجاة

ركائز النجاة
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي 
خطيب المسجد  الأقصى المبارك 
هل تعلم أن ركائز النجاة في الدنيا والآخرة أربعة أمور وهي : الإيمان ، والشكر ، والتوبة ، والاستغفار ،فربنا تعالى ذكره يقول:( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ)سورة النساء :(147) ،فالله سبحانه لا يعذب شاكرا مؤمنا ، قال التابعي مكحول رضي الله عنه : ( أربع من كُنّ فيه كُنّ له ، وثلاث من كُنّ فيه كُنّ عليه ، أما الأربع فالشكر والإيمان والدعاء والاستغفار ، وأما الثلاث التي عليه : فالمكر والبغي والنكثُ ) انظر القرطبي : 5( /427) ، وقال الله تعالى : (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)سورة الأنفال (33) ، أما الإيمان أيها الصائم الكريم فهو شرط قبول  صيامك ، وهو شرط قبول الأعمال من الإنسان فلا يقبل عمل صالح من كافر حتى يدخل في دين الإسلام ، والإيمان كما عرّف العلماء هو : " ما وقرَ في القلب ، ونطق به اللسان ، وصدّقته الجوارح " ، ولذلك كان الإيمان هو أول ركائز النجاة في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فيعصم دمك إلا بحق الإسلام ، وأما في الآخرة فهو أول باب يفتح لك من أبواب الجنة حتى تلجها ، وأما الشكر ثاني ركائز النجاة فيكون باللسان والجوارح والقلب ، وهو بهذا يكون بإظهار نعمة الله عليك بلسانك اعتراف بهذه النعمة التي منّ الله بها عليك ، ووفي قلبك بالإقرار بها ، وبجوارحك أن تستخدم هذه الجوارح كاليد واللسان وغيرهما في طاعة الله وكما أمر الله فلا تعمل بجارحة منه معصية ، بل تكون هذه الجوارح دائما متحفزة لطاعة ربها الذي خلقها ، ومنّ بها عليك ، وأما التوبة الركيزة الثالثة للنجاة فهي أن تترك ذنبك لقبحه فلا يليق بك أن تقترف ذنبا وتعصي ربك الذي أنعم عليك بنعمة الحياة والجسد ، فيجب أن تندم على ما صدر عنك من معاصٍ وذنوب ، وأن تعزم بنية صادقة عن الرجوع عنها وعدم العودة إليها ، ولا تصحّ منك توبة إذا كانت تتعلق بحقوق العباد حتى تردّ الحقوق إلى أصحابها فهذه هي التوبة النصوح من حقوق العباد التي اجترأت عليها وأخذتها منهم ظلما وعدوانا ، وأما الركيزة الرابعة للنجاة فهي الاستغفار ، وهو أن تطلب من الله تعالى أن يستر ذنوبك فلا يفضحك بها ، ولا يعاقبك عليها ، واستغفارك يكون من الله ، ويكون لك ، ويجوز أن تستغفر لغيرك ، وحتى يقبل منك استغفارك يجب أن يكون مرتبطا بالتوبة والعمل الصالح ، وقد جاءت نصوص شرعية عديدة تتحدث عن التوبة والاستغفار منها قول  الرسول صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم) ، وهذا الحديث كان يكتمه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه ، ولم يخبرنا به إلا حينما حضرته الوفاة وقال: ( كنت كتمت عنكم حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوف أحدثكموه وقد أحيط بنفسي) ، وعليه فنحن أمة لا تقنت ولا تيأس من رحمة الله ، ولو بلغت ذنوبنا عنان السماء ،  لأننا نؤمن أن الله يغفر الذنوب جميعا ، تصوروا أن المذنب من أمة محمد صلى الله عليه وسلم هو من المتقين ، وأن المرتكب للفاحشة من المتقين إن تاب إلى الله وأناب ، هذا قول ربنا وليس قولي ، اسمعوا : (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون)، ونحن نعلم أنه  لا عصمة من الذنوب والخطايا إلا للرسل ،أما غيرهم ا فهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، وباب الرجاء مفتوح للمذنب ، يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم)، فالزم الاستغفار والتوبة ، واجعل لهما مكانة على لسانك وفي  قلبك كي تنجو ، وكلما أذنبت ذنبا ، قم وتوضأ ، وصلِّ صلاة التوبة ، إذا كنت لا تعرفها فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني- وصدق أبو بكر- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يذنب ذنبًا فيتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له) ، تب واستغفر ، يزول كربك ، ويفرج همّك ، وترزق من حيث لا تحتسب ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا ومن كل هم فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب) ، هذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي من الليل ثم يلتفت إلى نافع ويقول: يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال نعم: أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح، واعلم رعاك الله أن الاستغفار لك أمان،فقد قال الله تعالى :(وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) ، وقال رسولنا صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليّ أمانين لأمتي ، وما كان الله يعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ،  فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة) .
والحمد لله رب العالمين

الثلاثاء، 11 مارس 2025

مهارات الصيام

مهارات الصيام
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى
للصوم في شهر رمضان خاصة ثلاث مهارات ،وهي مهارات على المسلم أن يتعلمها ويتقنها في كافة أوقاته وسنوات عمره ، فإذا أتقنها المسلم نجح وأفلح في صيامه ،وحقق إيمانه ، قولا وعملا ، وإن لم يتقنها أظنه خاسر ، وفاته خير كثير ، فرمضان دورة تدريبية ربانية لكل مسلم في كل عام ، ليتخرج منها بشهادة عملية تؤهله لتحقيق وظيفة استخلافه في الأرض التي خلقه الله من أجلها ، وهذه المهارات الثلاثة هي : أولا : مهارة تدريب عقله على معرفة أحكام الشريعة الخاصة بالصيام من جهة ، والأحكام الشرعية المتعلقة بشكل عام ، وهو ينطلق بهذه المهارة من قوله تعالى (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)، ومما يحزن القلب أن المسلمين يدخل عليهم رمضان ويخرج وهم يسألون عن أحكام الصيام ، وكذلك يدخل عليهم رمضان ويخرج من عندهم ، ولم يتعلموا بشكل عملي مهارة التعامل مع غيرهم من المسلمين أقارب وجيران وأصدقاء ، مع أن هذا الشهر هو فرصة ثمينة لتعلم هذه المهارة ، ثانيا : مهارة تقوية الجسم ، ولا يتفطن الصائمون في رمضان إلا إلى جزء من هذه المهارة وهي مهارة إشباع البطن ، وحتى مهارة إشباع البطن لا يتقنوها فيملأون البطون بالطعام والشراب ، ولا يتركون مجالا للنَفَس والهواء ، وأما الجزء المتبقي من مهارة تقوية الجسم فهي تكاد معدومة ، كتدريب الجسم على الحركة ، والصحة ، والعمل النافع ،ثالثا: خلاء بطنك في شهر رمضان من الطعام له مهارة ثالثة ومن فوائدها :أنك تجوع امتثالا لأمر الله تعالى بالإمساك عن الطعام والشراب ، وهو جزء من التقوى ، فقد ذكر القرطبي في تفسيره أن من معاني ( لعلكم تتقون) : لعلكم تضعفون ، فالمسلم حين يقلل من الطعام أثناء صيامه يضعف ولا يسمن ، ولهذا عدة فوائد منها :الأول: الحفاظ على الجسم من الأمراض ، كالضغط والسكري والسمنة وغيرها ، ثانيا : النشاط والفطنة ، فخلّو المعدة من الطعام ، تؤدي إلى نشاط الإنسان ، ويزيد من فطنته ، بعكس البطنة ، فإن الإنسان إذا امتلآ بطنه ، ذهب نشاطه ، وقلّت فطنته ، ويتضح لنا هذا المفهوم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم (ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن)، فالبطن إذا امتلآ بالطعام والشراب ، ضغط هذا كله على الصدر والقلب ، فيمرض الصدر بما يسمى " الارتجاع المرييء" ، ويمرض القلب فيصدأ كما يصدأ الحديد ، فلا يكاد يفقه حديثا ، ولا يكاد يعتبر بما يمرّ عليه ، وقديما قالوا ( البطنة تذهب الفطنة) ، وقال سيدنا عيسى عليه السلام " يا بني إسرائيل.:لا تأكلوا كثيرا، فتشربوا كثيرا، فتناموا كثيرا فيفوتكم خير كثير" ، ثالثا : الشعور بالفقراء الذين لا يجدون طعاما يأكلونه ويشبعون منه ، وهذا المعنى غير متحقق عند كثير من الناس الذين يصومون ، لأنهم يملأون بطونهم عند السحور وعند الإفطار ، فمتى يجوع هؤلاء؟ ومتى يشعرون بغيرهم الجوعى ؟ لقد رأينا الناس في غزة يعانون من الجوع ، وعرفنا بالرؤيا والمشاهدة حقيقة الحرمان من الطعام والشراب ، وتأكد لنا حكمة خلاء بطن الصائم من الطعام والشراب أثناء الصيام وبخاصة في شهر رمضان ، فما هو المطلوب من المسلمين الصائمين في شهر رمضان ؟ الجواب : أولا : الترشيد في كمية الطعام ،الثاني : حفظ النعمة بعدم إلقاء ما تبقى من الطعام في النفايات ، بل إعادة جمعه وحفظه والتصدق به على العائلات المستورة ، أو المراكز المحلية المحتاجة إليه ،الثالث: أو من خلال صلة الأرحام حين الترشيد في النفقة على الطعام ، بدفع جزء من المال المدخر للطعام في رمضان لبعض الأرحام ، مما يزيد في التواد ، والتكافل ، والمحبة ، والأجر لباذل المال المشار إليه ، مع التنبيه إلى أن الطعام والشراب الذين يأكله الصائم هو عياله مصيره الزوال والفناء ، وأن ما يبذله للناس من طعام أو مال ، هو الذي يُدّخر له ويحفظ عند الله تعالى ، وبه يدفع الله عنه البلاء ، رابعا :مهارة تزكية النفس ، وهي تحتاج إلى بصيرة من المسلم ، فيعرف طرق الخير لتزكية النفس ليزكيها ، ويعرف طرق الشر فيجتنبها تزكية لنفسه ، فمهارة تزكية النفس تكون بالطاعة حينا ، وتكون بمعرفة المعصية واجتنابها حينا آخر ، ولقد تعلم الصحابة هذه المهارات ، فأخذوا بمهارة تدريب العقل عن طريق تلقي العلم النافع من النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان لهم أن جمعوا علم الدين والدنيا ، فسادوا وملكوا وعزّوا ، وتعلموا مهارة تربية البدن ومن ذلك صبرهم على حصار الشعب في مكة ثلاث سنيين فخرجوا أقوى وأشد وأصلب عودا ، وتعلموا مهارة تزكية النفوس ، ومن الأمثلة على ذلك أنهم كانوا رهبانا في الليل ، فرسانا في النهار ، وكانوا يتلقون الوحي من النبي صلى الله عليه وسلم للعمل به وليس للمراء والجدال كما هو حال عديد المسلمين في هذا الزمان ، وينبثق عن هذه المهارات الثلاثة مهارات كثيرة هي شعب الإيمان على كل مسلم أن يكون له الحظ الوافر منها ، كمهارة قيام الليل ، ومهارة الصدقة ، ومهارة صلة الرحم ، ومهارة العفو عن الزلات ، وغيرها من المهارات ، التي ينبغي أن تكون حاضرة في حياة المسلم في رمضان وسائر شهور السنة
والحمد لله رب العالمين

اعرف حقيقة التقوى

رقائق إيمانية
اعرف حقيقة التقوى
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
بعيدا عن عديد التعريفات للتقوى المشهورة بين المسلمين، أبين لهم في هذه المقالة أصالة التقوى ، والأركان التي تقوم عليها ، وهذه الأصالة والأركان ذكرها الله سبحانه في ثلاث جمل وست كلمات في سورة الأعراف الآية (199) وهو قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)،فالآية الكريمة تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات المطلوبة من المسلم ، وقواعد الشريعة في المنهيات الواجب على المسلم الانتهاء عنها مطلقا ، وهذه القواعد من المأمورات والمنهيات هي أركان التقوى ، لأن المعنى الأصيل للتقوى يقوم على فعل المأمورات ، واجتناب المحظورات ، وعدم الوقوع في المحرمات ، فمن فعل المأمورات ، واجتنب المحظورات ، ولم يقع في المحرمات ، أصاب حقيقة التقوى ، ثم إن التقوى درجات ، وبهذه الدرجات فكل مسلم تقي ، ولكن درجته من التقوى بمقدار ما يؤدي ما وجب عليه من المأمورات ، وبمقدار ما يجتنب المحرمات والمحظورات ، فإذا قصّر مسلم في ما أمره الله به ثم تاب وقام به بعد تقصيره ، أو أصاب حراما ، أو فعل محظورا ، ولو كان فاحشة ، ثم تاب واستغفر ، وأقلع عن فاحشته ومعصيته ، فهو من المتقين ولكن بدرجة أدنى ممن سبقه إلى التقوى بمكوناتها التي ذكرتها آنفا ، والشاهد لما أقول قوله تعالى في سورة آل عمران آية (135): (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، فهذه الآية ذكرت التوابين من معاصيهم من المسلمين فإن الله سبحانه يلحقهم بالمتقين الذين ذكرتهم الآيات التي سبقت هذه الآية ، وبالعودة إلى الآية الكريمة التي ابتدأنا بها هذه المقالة ، والتي بينت أصالة التقوى وأركانها ، نذكر بعض المأمورات وبعض المنهيات الدالة على التقوى ، فقوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) تضمن كل خلق مأمور به المسلم مثل : صلة من قطعك ، والعفو عمن أذنب بحقك ، والرفق بالمسلمين حولك ، وقوله تعالى (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) تضمن الأمر بصلة الأرحام ، والأمر بتقوى الله في الحلال والحرام ، والأمر بغض البصر ، وأن يعدّ المسلم نفسه من الموتى ، بمعنى : أن يجهز نفسه للرحيل من الدنيا بالتزود للآخرة من كل عمل صالح ، وأما المنهيات في قوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) فقد تضمن الإعراض عن الظلمة أو العمل معهم والسير على طريقتهم ، وأن يتنزه المسلم عن مجاراة كل سفيه ، وأن يبذل جهده في التعلم والبعد عن الجهل وأسبابه ، وبالجملة فميزان التقوى الأخلاق الحميدة ، والأفعال الرشيدة ، وهذه كلها تحتاج إلى شرح موسع لا يتسع له المقال هنا ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم جمع هذه الخصال لجابر بن سُليم حيث قال جابر : "رَكِبْتُ قَعُودِي ثُمَّ أَتَيْتُ إِلَى مَكَّةَ فَطَلَبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنَخْتُ قَعُودِي بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَدَلُّونِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ بُرْدٌ مِنْ صُوفٍ فِيهِ طَرَائِقُ حُمْرٍ، فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ:" وَعَلَيْكَ السَّلَامُ". فَقُلْتُ: إِنَّا مَعْشَرُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، قَوْمٌ فِينَا الْجَفَاءُ، فَعَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا. قَالَ:" ادْنُ" ثَلَاثًا، فَدَنَوْتُ فَقَالَ:" أَعِدْ عَلَيَّ" فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: (اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَأَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي وَإِنِ امْرُؤٌ سَبَّكَ بِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْكَ فَلَا تَسُبُّهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ أَجْرًا وَعَلَيْهِ وِزْرًا وَلَا تَسُبَّنَّ شَيْئًا مِمَّا خَوَّلَكَ اللَّهُ تَعَالَى (. قَالَ أَبُو جُرَيٍّ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ شَاةً وَلَا بَعِيرًا" رواه البزار في مسنده بمعناه ، وانظر أخي رعاك الله كيف التزم جابر بن سليم بما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم به ، وهذا هو الذي ينقصنا في هذا الزمان ، وهو أننا نعرف حقيقة التقوى ، وأصالتها ، وأركانها ، لكننا – للأسف – لا نعمل بها - ، فكيف إذن نحقق حكمة صيامنا في شهر رمضان خاصة من التقوى ، ونحن نعلم ولا نعمل ، وهذا الخلق وهو ترك العمل مع العلم هو خلق مخالف للتقوى من جذرها ؟ وإذا كان الصائم لا يحقق التقوى من صيامه بالمعاني المذكورة فمن الطبيعي جدا أن لا تشمل رقبته العتق من نار جهنم ، وأن تغلق أبواب السماء في وجه دعوته فلا يستجاب له ، ولعل من المهم جدا هنا ونحن نتكلم عن أصالة التقوى وأركانها ، أن نذكر أبناء مجتمعنا الفلسطيني الذين ضاقت أخلاقهم ، وطاشت أحلامهم ، فكثر نزاعهم ، وشجاراتهم ، أن نذكرهم بما رواه البخاري عن عبد الله بن الزبير في قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ)قال : " ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس" ، وقال جعفر الصادق : " أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق في هذه الآية ، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية " ، وكلنا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) أخرجه البزار (8949) ، فمن أراد أن يكون تقيا حقا وصدقا فليأخذ بنصح النبي صلى الله عليه وسلم وهو إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق ) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان
والحمد لله رب العالمين

الأحد، 9 مارس 2025

التكافل بين الصائمين

رقائق إيماني
التكافل بين الصائمين
الدكتور محمد سليم محمد علي
 خطيب المسجد الأقصى المبارك
لو فرضنا التكافل إنسانا وسألناه من أحق المسلمين بالتكافل اليوم لقال لنا قول الواثق : أحقهم بالتكافل الشعب الفلسطيني ، تكافلهم فيما بينهم من جهة ، وتكافل عامة المسلمين في كافة الأقطار معهم من جهة أخرى ، ذلك أن مصاب هذا الشعب جلل ، ومتدحرج مثل كرة الثلج يزيد حجمها بتدحرجها ، فمن معاني الكفالة الشاهد والرقيب ، والحافظ ، والضامن ، كما قال القرطبي عند قوله تعالى في سورة النحل (91) : (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) ، انظر : الجامع لأحكام القرآن (10/170) ،فمن عرف حال شعبنا في كافة المحافظات ، وراقبها بعين المبصر الفطين ، تأكد أن هذا الشعب يحتاج إلى حافظ له مما ينزل به من المصائب ، وإلى ضامن يضمن له خروجه مما يعتريه من ألوان الابتلاءات والكربات ، وهذه الكفالة بهذه المعاني هي من أصول ديننا الحنيف ، ومن ركائز العلاقات بين أبناء المجتمع المسلم ، ولا تقتصر على مجموع الأفراد بل تشمل الحكام أيضا ، فهؤلاء جميعا يجب أن ينهضوا لتحقيق التكافل مع أبناء شعبنا ، التكافل المادي ، والتكافل المعنوي ، وقد أقام القرآن الكريم هذا التكافل بين المسلمين على قاعدة رئيسة وهي قوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) سورة المائدة (2) ، وأقامه النبي صلى الله عليه وسلم على عدة ركائز أهمها ما رواه البخاري عنه في كتاب الأدب :( ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) ، وإذا كان التكافل هو الحالة العامة التي يجب أن تسود المجتمع المسلم ، فإنه يجب أن يكون الحالة الخاصة التي يجب أن تظهر بين الصائمين في شهر رمضان المبارك ، ويمكن ذكر بعض صور التكافل بين الصائمين في المجتمع الفلسطيني خاصة ومنها : أولا : التكافل المالي وله عديد الصور منها : الزكاة ، وهي الحق الواجب في المال البالغ للنصاب إذا حال عليه الحول الهجري ، وكان زائدا عن الحوائج الأصلية ، وإذا أردنا أن ننزل شعبنا الفلسطيني على مصارف الزكاة الستة من الأصناف الثمانية لوجدناها تستوعبه ، وأنها تتوزع على فئاته المختلفة ، فمن أبناء شعبنا من يقع تحت وصف الفقير والمسكين ، ومنهم من هو من الغارمين ، ومن الأسير الذي يمكن أن يتحقق فيه وصف ( الرقاب) ، واليوم منهم من هو ابن السبيل وفي سبيل الله ، قال الله فيمن يستحق صرف الزكاة إليه في سورة التوبة (60) : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، وعليه فإن الزكاة باب من أبواب التكافل فرضه الله على الأغنياء ، ولو فقه هؤلاء الأغنياء فقه إخراج زكاة أموالهم لكفت عديد الأسر من أسر مجتمعنا الفلسطيني ، ثانيا : كفالة اليتامى ، ورعاية الأطفال ، الكفالة المادية والمعنوية ،قال الله تعالى في سورة الضحى (9) : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) ، فرفع الظلم عن اليتيم وإعطاؤه حقه صورة من كفالته ، وقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الكفالة حتى جعل فاعلها رفيقه في الجنة فجاء في الحديث الذي رواه البخاري : ( أنا وكافل اليتيم في الجنة ) ، ثالثا : وفي شهر رمضان يجب التفطن إلى رعاية وكفالة المطلقات والأرامل اللواتي لا معيل لهن ينفق عليهن ، قال الله تعالى في سورة الطلاق (6): (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) ، رابعا : كفالة المنكوبين ، وقد وردت في كفالتهم عدي الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة ، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم : (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من ركب يوم القيامة ) ، وروى الطبراني في الأوسط : ( أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن ، كسوتَ عورته ،أو أشبعت جوعته ، أو قضيت له حاجة ) ، فهذان الحديثان الشريفان يذكران صورا عديدة لإغاثة المنكوبين ، والتي يمكن لأي مسلم ، وأي صائم يرغب أن يكون له منزلة عند الله تعالى أن يعمل بأي صورة منها يقدر عليها ، وهي كما نرى يحتاجها العديد من أبناء شعبنا في ظل هذه الظروف الراهنة ، خامسا : يمكن أن تكون صدقة الفطر صورة من صور التكافل التي تسدّ ثغرة في حاجات المعوزين والمحتاجين ، مع العلم أن من مقاصد صدقة الفطر التكافل بإدخال السرور والكفاية على الفقراء والمساكين ليلة العيد وفي يومه ، سادسا : ولعل التكافل بصورة " الإيثار " هو أهم صورة نحتاجها اليوم في مجتمعنا الفلسطيني ، هذه الصورة الغائبة تماما عن مجتمعنا والتي في مقدمتها تفاني المسلمين في خدمة بعضهم البعض ، وإلقاء حظوظ نفوسهم خلف ظهورهم ، وقد كانت هذه الصورة قائمة بين المهاجرين والأنصار ، وهي التي أقامت المجتمع في المدينة المنورة على أساس قوي ومتين ، ولا ريب أننا اليوم نعيش حالة المهاجرين والأنصار ، فمن منا يبادر ويكون أنصاريا أو يتشبه بهم على الأقل ؟
والحمد لله رب العالمين

الجمعة، 7 مارس 2025

كن مباركا كرمضان

رقائق إيمانية
كن مباركا كرمضان
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
تعلمنا منذ صغرنا أن التشبه بأهل الصلاح أساس النجاح والفلاح ، وهذا صحيح لأن القرين يقتدي بقرينه ، والصاحب يتأثر بصاحبه ، فيشرب منه خلاله من غير أن يدري ويشعر ، أيّا كانت هذه الخلال خيرا أو شرا ، وصاحبنا رمضان أنعم به من صاحب ، فهو رمضان المبارك بوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم له بهذا الوصف ، ومظاهر بركته كثيرة ، فهو شهر الفتح لأبواب الجنة بفتح باب الطاعة والخير ، وهو شهر إغلاق أبواب الجحيم ، باعتزال ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو شهر تغلق فيه أبواب الشرّ ودواعيها ، فتصفّد فيه الشياطين التي ديدنها الدعوة إلى المنكرات ، والصدّ عن المعروف والطاعات ، ومن بركات صاحبنا رمضان أن شهر العتق من النار ، بل بركته هذه في كل ليلة من لياليه ، ومن أعظم بركات رمضان أن فيه ليلة هي خير من ألف شهر ، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغفلة عنها أو التهاون في قيامها فقال : ( من حرم خيرها فقد حرم ) ، ومن البركات التي نمارسها في رمضان صلة الأرحام ، والصدقات ، وإخراج الزكاة ، والعفو عن الزلات ، والتكافل بعديد صوره ومظاهره ، وحين تجتمع هذه البركات لهذا الصاحب المبارك رمضان لا بدّ من الاحتفال بها ، وهذا ما شرعه لنا ديننا الحنيف ، حيث نختم هذه البركات ، ببركة ظاهرة ومميزة لشهر رمضان وهي الاحتفال بالفطر منه في يوم نسميه ( عيد الفطر) ، وحتى عيد الفطر هو نفسه ظاهر البركة لتأثره ببركات رمضان ، فهو شهر تقام فيه الصلوات ، وتزار فيه الأرحام ، ويفرح ببركته الصغار والكبار من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهل رأيت أخي الحبيب بركة أعظم من بركة صاحبنا رمضان ، فلماذا لا نقتدي به ، ونأخذ من بركته ، نتزود بها سائر أيام السنة وسائر شهورها ؟ أليس من الواجب على الصائم لرمضان المبارك أن يكون مباركا مثله ؟ إذن تعال نتعرف مع بعضنا البعض على صفات الرجل المبارك ، وهي صفات تشمل المرأة ، وإنما قلنا " الرجل" بناء على التغليب في الخطاب كعادة العرب ، لأن البركة تشمل كل مسلم يصاحب شهر رمضان ، صائما له إيمانا واحتسابا ، سواء كان رجلا أو امرأة ، صغيرا كان أو كبيرا ، فإن البركة إذا حلّت في شيء أو مكان ، عمت ذلك المكان أو الشيء كله ، فما هي صفات المسلم المبارك ؟ ومن هو الرجل المبارك الذي نريده فينا ؟إن الرجل المبارك هو الذي يجري الله تعالى على يديه منافع في الدين ، ويكون داعيا إلى الإسلام ، ومعلما من معالم الدين والدعوة ، وهو الرجل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، الذي يرشد من ضلّ عن سبيل الهدى ، وينصر المظلوم ويقف معه ، وهو الذي يغيث الملهوف ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وصف شهر رمضان بأنه شهر مبارك فقال : ( أتاكم رمضان شهر مبارك) ، وكان من بركات شهر رمضان ، إظهار معالم الدين وإشهارها بين المسلمين ، وحرص المسلمين أثناء صيامهم في شهر رمضان على البعد عن المنكرات ، والإقبال على الطاعات والواجبات الشرعية ، وإغاثة الفقراء والمعوزين والمحتاجين ، فكذلك الرجل يكون مباركا بامتثاله الصفات التي ذكرتها آنفا ، وهذه الصفات هي من صفات سيدنا عيسى بن مريم حيث قال الله تعالى على لسان عيسى عليه السلام : (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ)، قال ابن القيم:كيف يكون الرجل مباركا ؟ قال: ( فإن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حلّ ، ونصحه لكل من اجتمع به ) ، فيكون الرجل معلما للخير ، داعيا إليه ، وعليه فأنت أيها المسلم وأنت أيتها المسلمة ، كونوا مثل شهر رمضان مباركين ، وذلك بما يلي : أولا : في بيوتكم كونوا ناصحين ودعاة إلى الخير مع زوجاتكم وأزواجكن ، ومع أولادكم وبناتكم وأهل بيتكم ، ثانيا : كونوا مباركين في أماكن عملكم ، تؤدونه بإخلاص ، ولا تغشون ، وتنصحون من حولكم بالخير ، ثالثا : كونوا مباركين في الشارع ، والمسجد ، والأماكن العامة ، وفي الحافلات ، وفي الأسواق ، وأينما حللتم وكنتم ، لتظهر بركتكم بصلاحكم ، وإصلاح من حولكم ، بالدعوة إلى الدين وتعاليمه السمحة ، وبالخلق الحسن ، واللسان اللين الذي لا ينطق إلا حقا ، ولا يقول إلا صدقا ، وبنصرة المظلوم ، ورد المظالم إلى أهلها ، فمن سكت عن الحق ، وخرس لسانه عن الدعوة إلى الخير ، ومن أكل أموال الناس ، واعتدى على أعراضهم ، واتسخت يده بدمائهم ،فهذا رجل غير مبارك ، نعوذ بالله منه ومن أمثاله ، وأما من كان سلما وأمنا للمسلمين ، ومن كان مفتح خير مغلاق شر، ومن كان ناصحا بالحق ، رجّاعا إليه ، ووقّافا عنده ، وكان آمرا بالمعروف ، وناهيا عن المنكر ، وكان يألف ويؤلف ،إذا دخل بيته أو أي مكان استبشر الناس بقدومه ، وإذا غاب عن بيته وعمن يعرفه ، اشتاقوا إليه ، فمثل هذا هو المبارك ، رجلا كان أو امرأة، فكونونا مباركين.
والحمد لله رب العالمين

خطبة الجمعة للدكتور محمد سليم محمد علي من المسجد الاقصى المبارك 7 رمضان

 خطبة الجمعة للدكتور محمد سليم محمد علي من المسجد الاقصى المبارك 7 رمضان




الخميس، 6 مارس 2025

البرنامج اليومي للمسلم في رمضان

البرنامج اليومي للمسلم في رمضان
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
أيام شهر رمضان هي أيام تدريب عملي للمسلم على المنهج الذي يستخدمه في قضاء ساعات أيام عمره ، التي كل لحظة منها إما أن تسجل في ميزان حسناته ، أو تسجل في ميزان سيئاته ، والمسلم عادة يبدأ يومه بذكر الله تعالى بعد الاستيقاظ من نومه ، فإذا كان ناويا للصيام فريضة كصوم رمضان أو غيره ، فمن السنّة النبوية أن يتناول طعام سحوره ، لأن في تناوله تعبّدا لله تعالى ، فهو يعمل بالسنّة النبوية ، ويخالف أهل الكتاب في صيامهم لأنهم لا يتسحرون ،وينال دعاء الملائكة له ، لأن الملائكة تصلي على المتحسرين ، يعني : تدعو لهم ، تقول : اللهم ارحمهم ، الله اغفر لهم ، وبالسحور يتعود المسلم على الاستجابة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، واتباع سنته ، والمبادرة إليها ، عدا عن أنه بتقوى سائر يومه على طاعة الله ، والقيام بأعماله ،وبعد تناول السحور ، يحرص على أداء صلاة الفجر جماعة ، ثم بعد ذلك يقرأ ورده الصباحي من الأذكار ، سواء جلس في مصلاه ، أو خرج بعد ذلك لطلب الرزق ، وإن كان موظفا ، أو عاملا ، خرج لعمله ، حافظا لسمعه ، وبصره ، ولسانه ، ويده ، وقدمه ، من كل ما نهى الله عنه وحرّمه عليه ، فإن كان فارغا من العمل ، وقد كفاه الله مؤنة الكسب ، شكر الله تعالى على هذه النعمة ، فيجلس ، ويصلى صلاة الضحى التي هي صلاة الأوابين ، وأقلها ركعتان ، وتكفيان المسلم عن شكر الله تعالى على نعمة الخلق الذي خلقه عليه ، وهذا كل صباح ، ولا ينسى ورده من القرآن الكريم ، فيقسم الورد القرآني إلى قسمين ،الأول : قراءة القرآن ، ويحرص على ختم القرآن في شهر رمضان أكثر من مرة ، والثاني : تلاوة القرآن ، وهذه التلاوة هي قراءة القرآن بالتدبر والتفكر في معانيه ، ومحاولة التخلق بأخلاق القرآن الكريم ، وهذه التلاوة لا يشترط فيها ختم " الختمة" ،بل هي للتدبر ، والعمل بأحكام القرآن الكريم ، ثم يحرص المسلم على الصلوات الخمس جماعة في المسجد ، ولا يتقاعس عن خدمة أهله في بيته ، ويحفظ سلوكه ، وأخلاقه معهم ، فلا يؤذيهم بقول أو فعل بحجة أنه صائم ، ولا يطلب منهم أكثر مما يجب عليهم ، وأكثر مما يطيقون ، فهم مثله صائمون ، وهم مثله فيما يجب عليهم فعله في أيام رمضان ، وأفضل أخلاق المسلم في رمضان خاصة الصبر ، فلا يجهل إذا جهل عليه الآخرون ،ويعفو ويصفح ، ولا يرفث ، ولا يصخب ، فهذه تيجان الصائم الذي يقبل الله منه صيامه ، وإذا كان في المسجد وفيه مجلس علم ، فالأفضل الاستماع إلى درس العلم ، لأن درس العلم وقته محدود وينتهي ، وأما تلاوة القرآن والذكر ،فلديه وقت طويل للتلاوة ، ثم يستثمر المسلم يومه في صلة الرحم ، بتفطير الصائمين ، وبرّهم بما يقدر عليه من أنواع البر والصلة لهم ، وهو قبل ذلك كله ، يعلن توبته النصوح إلى ربه تعالى ، من حقوق الله عليه ، ومن حقوق العباد التي لا يغفرها الله إلا برد هذه الحقوق لأصحابها ،فإذا حان وقت الإفطار ، جلس مع أهل بيته ، متحببا إليهم ، ومشفقا عليهم ، ويحرص أن لا يملأ بطنه ، بل كما جاء في الحديث ، ثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه وهوائه ، وحين يخرج لصلاة العشاء والتراويح ، لا يخرج من صلاة التراويح قبل صلاة ثماني ركعات على الأقل ، فبعض الناس يصلى أربع ركعات تراويح ، فهذا يكون قد أساء ، لأن التراويح لا تقل عن ثماني ركعات ،وإن كان يجزىء أقل من هذه الركعات ، ثم يصلى مع الإمام حتى ينتهي الإمام من صلاته ، فإذا صلى في أحد المساجد الثلاثة خاصة ، يحرص على الاستزادة من ركعات التراويح حيث يصلي معهم الركعات المتعارف على صلاتها فيها ، فإذا رجع إلى بيته ، لا يخلط العمل الصالح بالعمل المحرم ، كالسهر من غير ضرورة ، أو يجلس في مجالس أحاديثه دنيوية ، فيها لغط ولغو كثير ، ولا يمضي ليله متنقلا من فضائية إلى أخرى ، متابعا البرامج التمثيلية ، وغير ذلك مما هو منكر ، ولا ينسى أن يُبيّت النية لصيام اليوم التالي ، لأن كل يوم من أيام رمضان عبادة مستقلة ، ويحتاج إلى نيّة مستقلة ،ولأن كل عبادة لا تقبل إلا بالنية ، وهذا البرنامج يشمل الرجل والمرأة ، إلا أن المرأة لها خصوصية ، تجعلها تقوم على خدمة أهل بيتها نهار رمضان وليله ، وهذا العمل لها أجرها عليه عند الله سبحانه ، وبهذا يكون أجر المرأة الصائمة في نهار رمضان خاصة ، والتي تقوم بإعداد الطعام وغير ذلك من أمور الأسرة ، أكثر من أجر الرجل ، وإذا ابتلى الله الزوجة بزوج سيء الخلق في شهر رمضان ، كثير الطلبات ، ثم صبرت هذه الزوجة على هذا الزوج ، تضاعف أجرها ، وزاد ثوابها ، وأخيرا فالعمل الصالح في أيام رمضان لا يقتصر على الصوم ، والصلاة ، وتلاوة القرآن ، فالمسلم العامل ، والموظف ، هو أيضا في علمه ، ووظيفته ، يقوم بعمل صالح ، إن كان عمله مشروعا ، وهو يتقي الله فيه.
والحمد لله رب العالمين

الأربعاء، 5 مارس 2025

القدس حزينة وتخلو شوارعها من الزينة

القدس حزينة وتخلو شوارعها من الزينة
ليالي رمضان مميزة في مدينة القدس

أعتق رقبتك من النار

أعتق رقبتك من النار
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى
من خصائص ليالي رمضان ، أن كل ليلة منها يكتب الله فيها العتق من النار لكل مسلم ، كتب الله له العتق منها ، وذلك مصداقا لما رواه الترمذي في سننه رقم (682) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (وَلِلهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ)،وإذا رجعنا إلى معاجم اللغة العربية لنعرف معاني كلمة " العتق" ، وعلاقتها بالمسلم الصائم في رمضان ، نجد أن العتق للصائم يشتمل على عدة معانٍ كلها – والله أعلم – مرادة من الحديث الشريف الدالّ عليها ، وهي : أولا : العتق في اللغة العربية يعني : الحرية ، وهو أشهر معانيها ، وأول ما يتبادر إلى ذهن سامعها ، والحرية مطلب إنساني لا يتنازل عنه البشر جميعهم ، لأنه أساس الكرامة الإنسانية ، وعليه تقوم الحياة ، ولأجل الحرية يبذل الأفراد والشعوب أرواحهم ،فإذا فقدوها كانت حريتهم أغلى من حياتهم ، ولنا أن نتصور هذا المعنى بالنسبة للمسلم الصائم ، فهو يبذل كل ما يستطيع من ترك شهواته ، ويسهر لياليه ، ويبذل مالهُ ، وينفقه في سبيل الله ، من أجل أن ينال أعظم حرية على الإطلاق ، هذه الحرية زمانها مطلق ، ونعيمها مغدق لا يزول ، وهي حرية الخلود في الجنة ، بعد أن كانت نيران جهنم متقدة ، تنتظره ليسجن فيها أبدا ، ويذوق فيها مرارة الذل ، وشدة الهوان ، ودوام البؤس ، إن هو انتهك حرمة رمضان ، ولم يظمأ نهاره ، ولم يجع بطنه فيه ، ولم يسهر ليله ، استجابة لأمر الله له بالصيام والقيام ، فما أعظم هذه الحرية ! وما أفضل هذا العتق من النار ! ثانيا : ومن معاني العتق في اللغة العربية : الكرم ، والعتق للمسلم الصائم من النار يوم القيامة من أعظم الكرم ، الذي يكرم الله به عباده المؤمنين المتقين ، الذين صاموا نهارهم ، وقاموا ليلهم في شهر رمضان ، وهل هناك كرم أفضل من كرم الحرية ؟ وهل هناك كرم أفضل من العتق من غضب الله على العبد ؟ وهل هناك كرم أنجى للعبد من العذاب في نار تتلظى ؟ والكرم الذي هو من معاني العتق في اللغة العربية ، يدلل على كرم الله المطلق ، وعلى اسم من أسمائه وهو " الكريم " ، وقد أمرنا الله سبحانه إذا دعوناه أن نكثر في دعائنا من قول " يا ذا الجلال والإكرام " ، ثالثا : ومن معاني العتق في اللغة العربية : الجمال ، وكيف لا يكون العتق من نار جهنم جمالا، وبه تصير الوجوه كما أخبرنا الله ( مسفرة ، ضاحكة مستبشرة) ، ولماذا لا تكون ليالي رمضان ليالي الجمال ، وفيها تصفو الروح ، ويقف الجسد في التراويح والقيام مرتاحا من كدر المعصية ، ونقيّا من دَرَن الذنوب ؟ أليس هذا هو الجمال بعينه ؟ أليس هذا هو العتق للروح والجسد من عبودية الدنيا ، والشهوات ، والملذات ؟ ولماذا لا تكون ليالي رمضان ليالي الجمال ، وفيها نزل القرآن ، وفيها تتنزل الملائكة البررة ، وفيها تصدح الحناجر بسور القرآن وآياته ؟ إن هذا لهو العتق الحقيقي للمسلم الصائم من ذل العبودية لغير الله تعالى ، هذا العتق الذي يضفي عليه جمالا في دنياه ، بالحياة المطمئنة ، وفي آخرته بالحرية التامة حين يسرح ويمرح في جنات عدن ، فيكون الجمال الأبدي ، حيث النعيم المقيم ، رابعا : ومن معاني العتق في لغة العرب : الصلاح ، والصلاح ميزان الحرية ، الذي به يوزن العتق للمسلم الصائم القائم ، لأن بالصيام والقيام صلاحه ، أليست حكمة الصيام كما أخبرنا الله بقوله : ( لعلكم تتقون) ؟ والتقوى هي جماع الصلاح كله ، وصلاح المسلم الصائم هو ثمرة صيامه ، وصلاح المسلم القائم في رمضان هو نتاج قيامه ،وهذا الصلاح به يكون المسلم عتيقا من المعصية التي تحبسه ، وبه يكون فكاكه من أسره الذي ينتظره يوم القيامة ، فهل أدركت أيها المسلم الصائم في رمضان ، والقائم في لياليه ، أهمية عتق رقبتك من ذل العبودية في الدنيا ، ومن سوء المصير في الآخرة ؟ إنه تكريم لإنسانيتك ، وجمال لشخصيتك ، وصلاح لذاتك ، ولا يكون عتقك إلا بهذه المعاني ، ولا نجاة لك من النار ، إلا بالقرب من ربك ، بالإيمان الصادق ، والإخلاص في القول والعمل ، وأداء ما فرض الله عليك ، واجتناب ما نهاك الله عنه ، فكن مع شهر رمضان كريما كي تكون عتيقه ، وكن في ليالي رمضان جميلا كي تكون فيها عتيقا ، واتخذ من تقلب نهار رمضان وليله طريقا لصلاحك ، كي تكون العتيق يوم الدين ، فهذا أبو بكر الصديق لقّبه النبي صلى الله عليه وسلم بالعتيق فقال له : (أنت عتيق من النار)، وكان رضي الله عنه يلقب بالعتيق لجماله أيضا ، فلا تخرج من شهر رمضان إلا وأنت محررٌ من سجن عبوديتك للشهوة والهوى ، فقم وتحرر منها كلها ، وتذكر أن ليالي رمضان ، فرصة لعتق رقبتك ، بكل ما تحمل هذه الكلمة من المعاني ، فقم هذه الليالي ، ولا تنم فيها إلا قليلا .
والحمد لله رب العالمين

الصيام المثمر

الصيام المثمر 
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
 خطيب المسجد الأقصى المبارك
الصيام شجرة ، والمرجوّ منها ثمارها ، فإذا صمنا شهر رمضان فهذا يعني أننا غرسنا شجرته لنقطف منها ثمارها ، ولا يكفي أن تكون هذه الشجرة يانعة خضراء دون أغصان وارفة ، فمجرد الجوع والعطش واعتزال معاشرة الزوجات هو هذه الشجرة ، لكن ما يترتب على هذا الامتناع عن المفطرات الثلاثة التي ذكرتها لا يكفي للحصول على الثمرة ، لأن هذه المفطرات في أصلها مباحة للمسلم المكلف ، وإنما كان مقصد الامتناع عن هذه المباحات أن يمتنع المسلم المكلف بالصيام عن غيرها من المحرمات ، وهذه هي ثمرة الصيام الحقيقية والتي قال الله فيها ( لعلكم تتقون) سورة البقرة:(183)، ومع هذه الثمرة الأصيلة للصيام وهي التقوى وحتى يكون الصيام مثمرا ، ويؤتي أكله ، لا بد من التزام المسلم الصائم عدة أمور ، وهي : أولا : أن تتمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصيام ، وأن تسلك طريقه ، وأن تكون على مجاهدته التي كان عليها أثناء شهر رمضان ، وهذا يتطلب منك أن تفقه صيام النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في سلوكه أثناء صيامه حتى تكون متبعا له صلى الله عليه وسلم ، وهذا أصل من أصول ديننا ، وهو أننا نتبع ولا نبتدع،لأن الأصل في العبادات الوقيف ،قال الله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)سورة آل عمران : (132)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (من أطاعني دخل الجنة،ومن عصاني فقد أبى) ، رواه البخاري في صحيحه ، ثانيا : المسابقة إلى الطاعات والخيرات والتنافس فيها بقدر ما أعطاك الله من قوة بدنية ومالية وعلم وفقه ، وهذا مجاله واسع في شهر رمضان ، وباب مفتوح على مصراعيه ، والأصل فيه قول الله تعالى : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ)سورة المطففين : (26) ، فالمبادرة إلى كل خير ، والمبادرة إلى اجتناب كل شر ، هو الركن الذي يقوم عليه صيام المسلم في شهر رمضان ، وقال الله تعالى في المسابقة إلى الطاعات : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)سورة آل عمران : (133) ، فلا بد من المسارعة إلى ما يوجب المغفرة ، ويعتق الرقبة من النار ، وهي الطاعة لله تعالى ، والطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فاستباق الخيرات ثمرة من ثمار الصيام ، فأداء الفرائض ثمرة ، والصبر عن المعاصي ثمرة ، والصبر على أقدار الله ثمرة ، وبقدر ما ينتج صيامك من ثمار يكون صيامك مقبولا ، وطريقا إلى ولوج الجنة المفتوحة أبوابها لك في شهر الصيام ، ثالثا : خلع عادات الجاهلية التي يلبسها كثير من الناس ، فكيف تكون صائما لله إيمانا واحتسابا وأنت تلبس ثياب الجاهلية وتتزين بزينتها ، كالعصبية ، وكراهية التحاكم إلى شرع الله ، والتبرج للمرأة ، واللباس غير المقبول من الرجال اليوم ، وغير ذلك كثير ؟ وأنت بأعمال الجاهلية تناقض إيمانك وصومك فانتبه رعاك الله وكن على حذر ، فكل هذه الأعمال هي كالأغصان اليابسة في شجرة صيامك ، قال ربنا عزّ وجلّ: (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)سورة المائدة : (50)، رابعا : التعاون مع جماعة المسلمين حولك على كل طاعة وبرِ وإحسان ، ولا يكفي أن يجمعنا أذان الفجر لنبدأ صيامنا ، وأن يجمعنا أذان المغرب لننهي صيامنا ، بل يجب أن يجمعنا شهر رمضان على سبيل الحق والتقوى والتناصح والتناصر عليهما ،قال رسولنا صلى الله عليه وسلم : (الدين النصيحة ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) رواه النسائي رقم 4210، خامسا : أن تأمر بالمعروف ، وأن تنهى عن المنكر ، فكما أن من الواجب عليك حتى يقبل الله منك الصيام أن تحفظ جوارحك كلسانك وبصرك وسمعك ويدك وقدمك من كل منكر ، وأن تعمل كل هذه الجوارح في طاعة الله تعالى ، فإنه يجب عليك أن تكون آمرا بالمعروف ، وناهيا عن المنكر ، بضوابطه الشرعية ، وهذا جزء لا يتجزأ من عملك اليومي في كل يوم من أيام السنة ، وفي كل يوم وليلة من أيام وليالي رمضان ، لأنه لا يكفي أن تكون صالحا حتى تكون مصلحا ، والآيات الكريمة ، والأحاديث الشريفة كثيرة في وجوب الأمر بالمعروف ووجوب النهي عن المنكر ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سورة آل عمران : (104) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (والذي نفسي بيده لتامرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ، أو ليوشكنّ الله يبعث عليكم عذابا منه ثمّ تدعونه فلا يستجاب لكم ) رواه الترمذي 2169، فانظر رعاك الله كيف يكون تركك للأمر بالمعروف ، وإعراضك عن النهي عن المنكر مانعا من استجابة عائك ، وأنت في صيامك لك دعوة مستجابة فلا تغلق الباب في وجهها ، وليكن صومنا مثمرا بثماره الدانية ، بالكف عن الآثام في رمضان ، ثم بأعمال الخير وهي كثيرة ، وثمارها قريبة مثل : صلة الرحم والصدقة وإخراج الزكاة وكفّ الأذى عن المسلمين ،والتعاون على الخير ، والتنادي إلى إغلاق أبواب الشر التي أغلقها الله بإغلاق الجحيم.
والحمد لله رب العالمين

الاثنين، 3 مارس 2025

استقبال شهر رمضان

رقائق إيمانية
 استقبال شهر رمضان
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
لأن شهر رمضان يتميز بحضوره فينا عن باقي الشهور، فإن من واجبه علينا أن نستقبله استقبالا يليق به ، وذلك على النحو الآتي : أولا : التوبة النصوح ، لأنه شهر المغفرة ، وشهر العتق من النار ، وشهر علوّ الدرجات ، وشهر تفتح فيه أبواب الجنة ، وتغلق فيه أبواب النار ، فلا يليق أبدا لمسلم أن يستقبله ، وهو متسخ بقاذورات المعاصي ، وأدران الذنوب ، فلا بدّ له من توبة نصوح تليق به ، وتصلح لاستقباله ، وأول التوبة الندم على التقصير في الفرائض ، والندم على الاجتراء على المحرمات ، والتوبة النصوح هي التوبة الصادقة ، وليست توبة الكذابين ، وليست استغفار المستغفرين بألسنتهم دون قلوبهم وجوارحهم ، قال الله سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) سورة التحريم:(8)، فنستقبل رمضان ببغض المعاصي ، وعدم الرجوع إليها ، وإدمان الطاعات ، وهجر قرناء السوء، ورد المظالم والحقوق إلى أصحابها ، واستحلال الخصوم ، وقلة الطعام والكلام والمنام ، فكل هذه المعاني للمسلم يحتاجها في رمضان ليحسن استقباله أحسن استقبال ، الإخلاص : فلا يقبل صيام صائم رياء ،أو سمعة ، وليس من المروءة أن يستقبل المسلم شهر رمضان بقلب لا يحمل الإخلاص فيه لرب رمضان عزّ وجل ، مع العلم أن العمل لا يقبل من مسلم حتى يكون خالصا لله تعالى ، وصوابا موافقا لسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم ، فحتى تكون من المقبولين في رمضان أشهر توبتك ، وأحسن إخلاصك لربك العظيم ، ثالثا: قطع الوشائج والعلاقات قبل دخول شهر رمضان ، مع كل عادة أو عمل ، مخالف للقرآن الكريم ، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، بل مخالف لتعليم ديننا الحنيف ، فشهر رمضان شهر الطاعات ، فكيف تستقبل شهرا بهذه الصفة ، وأنت معتاد على المعاصي والسيئات والذنوب ؟رابعا : العزيمة الصادقة على التشمير لفعل الطاعات ، والإقبال على الله سبحانه بالأعمال الصالحات ، فأنت تستقبل ضيفا كريما ، يفتح لك فيه أبواب الخير ، ويغلق لك فيه أبواب الشر ، ويقول لك : ( يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشرّ أقصر ) ، وكما أن هذا الشهر كريم ، فكن أنت حين تستقبله كريما مع أهلك ، أوسع عليهم من النفقة ، وكن كريما مع رحمك ، بصلتهم حق الصلّة ، إن أساءوا أعفُ عنهم ، وإن منعوك رفدهم وخيرهم ، فأعطهم ولا تمنع عنهم خيرك ، وإن قاطعوك ولم يصلوك فكن أنت المبادر لصلتهم ، وكن خير الفريقين ، وكن مثل رسولك صلى الله عليه وسلم الذي كان جوادا ، وكان أكثر ما يكون جوادا في رمضان ، فكان أجود من الريح المرسلة ، كما روى عنه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، فاستقبل رمضان بجودك بنفسك ، وجودك بجاهك ، وجودك بمالك ، وجودك بوقتك ، فهذا هو الجود الذي كان يستقبل به رسولنا صلى الله عليه وسلم شهر رمضان ،خامسا : ونستقبل شهر رمضان بالوقاية من كل ما يخدشه ، ويشينك فيه ، فمن العار أن تستقبل شهرا كرمضان ، وأنت تصومه صياما " مرّقعا" كالثوب المُرقّع" ، تخرقه بلسانك بغيبة ،أو نميمة ، أو كذب ، أو شتم لمسلم ، أو تخرقه بيدك فتقتل مسلما ، أو تعتدي عليه بها ، أو تخرقه بشهوة بطنك فتأكل حراما ، أو تقابل هذا الشهر وبطنك متخم بالحرام ، فقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم : ( والصوم جُنَّةٌ ما لم يخرقها) ، رواه أحمد والنسائي وغيرهما، فلا تخرق صيامك ، لأن خرقك الصيام هو سوء استقبال لشهر رمضان ، وقد قال مجاهد رحمه الله: خصلتان من حفظهما سلم له صومه: الغيبة والكذب، ورُوي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: (الغيبة تخرق الصوم والاستغفار يرقعه، فمن استطاع منكم أن يجيء غدا بصومه مرقَّعًا فليفعل)، فلا تكن صاحب صوم ممزق ، كثير الخروق ، لأن من عادة الناس التي تتصف بالمروءة ، أن تحسن استقبال ضيوفها باللباس الجميل ، والهندام النظيف ، والرائحة الزكية العطرة ،

الأحد، 2 مارس 2025

الإيمان والاحتساب في صيام رمضان

رقائق إيمانية
الإيمان والاحتساب في صيام رمضان
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
كيف يصوم المسلم شهر رمضان إيمانا ؟ وكيف يصومه احتسابا ؟ وما هو الثواب المترتب على هذا الصيام بهاتين الصفتين ؟ أولا : للإجابة على السؤال نذكر الحديث الشريف ، المتفق عليه ، حيث رواه البخاري ومسلم ، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من صام رمضان ، إيمانا واحتسابا ، غُفرَ له ما تقدّم من ذنبه ) ، ثانيا : صيام المسلم شهر رمضان إيمانا يكون على النحو الآتي : الأول : أن تكون مؤمنا بالله تعالى ربا ، وبأنه المستحق للعبودية دون غيره من المخلوقات ، لأنه سبحانه هو الخالق ، وهو الرب الفاعل في الكون ، وعليه لا يقبل الصيام إلا من المسلم ، فلا يصحّ صيام الكافر ، ولا المشرك ، ولا المرتدّ ، وننبه هنا أنه على المسلم قبل دخول شهر رمضان ، أن يتأكد من صحّ إسلامه ، بألا يكون قد عمل عملا من الأعمال التي تخرجه من الإسلام وتجعله مرتدا عنه ، ومن الأمثلة التي نراها في المسلمين اليوم ، إعطاء المسلم ولاءه للكفار والمنافقين ، عن علم ودراية وإصرار ، وكذلك الذين يسبّ الله ، والرسول صلى الله عليه وسلم ، والدين ، والقرآن ، فمن فعل ذلك لا يقبل من صيام حتى يتوب توبة نصوحا ، الثاني : ويكون صيام شهر رمضان إيمانا ، أن يؤمن المسلم أن صيام شهر رمضان فرض من فروض الإسلام ، وركن من أركانه ، لا يتمّ إيمانه إلا بذلك مع الإيمان بكل ما أوجب الله تعالى الإيمان به ، وأن الله سبحانه قد فرض الصيام عليه في القرآن الكريم ، وعلى لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله ، وأن الإجماع منعقد على فرض الصيام ، فمن أنكر هذا الفرض عن علم كان مرتدا لا يقبل منه صيام ، ومن تهاون في صيام شهر رمضان ، أو تهاون في صيام بعض أيامه ، من غير عذر شرعي ، فهذا – والله أعلم – لا تتحقق له فضيلة المغفرة التي تكون لصائم الشهر كله ، بالشروط التي سوف أذكرها ، الثالث : ويكون صيام شهر رمضان إيمانا ،بأنه إن فرّ ط في صيامه كله أو بعضه ، فإنه يسحق العقاب من الله تعالى ، مع العلم أن الفقهاء لم يطلقوا لقب " الزنديق" إلا على من أفطر في رمضان عمدا من غير عذر مشروع ،ثالثا : أما صيام شهر رمضان احتسابا فيكون على النحو الآتي : الأول : أي طلبا لوجه الله تعالى كما قال البغوي ، فهو لا ينتظر أجرا من الناس ، أيا كان هذا الأجر ماديا أو معنويا ، وعليه من صام رمضان ، وهو ينتظر الثناء من الناس على صيامه ، أو يصومه رياء وسمعة ، مع أن هذا مستبعد في شهر رمضان ، فهذا لا يؤجر على صيامه بمغفرة ذنوبه ، الثاني : وصيام شهر رمضان عدا أنه فريضة ، فهو قربة يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى ،ولذلك فصوم شهر رمضان عبادة ، والعبادة تفتقر إلى النية ، لأن النية شرط في قبولها ، وعليه على الصائم حتى يتحقق له الصوم احتسابا أن يحرص على تبيت النية لصيام شهر رمضان المبارك ، لأن صيام الفرض لا يصحّ إلا بأن يبيت المسلم النية من الليل ، والأفضل للمسلم في شهر رمضان أن يجعل لكل يوم من أيام رمضان نيّة مستقلة كما ذهب إلى ذلك السادة الشافعية ، لأن كل يوم من أيام رمضان عبادة مستقلّة ، تحتاج إلى نيّة جديدة ( انظر : عمدة القاري للعيني : 10/274)، الثالث : ويدخل في صيام شهر رمضان احتسابا ، أن يصومه بالرضا التام ، والحب لأداء هذه الفريضة ، فإن صام شهر رمضان أو بعضه ، مكرها ، أو خجلا ، أو مستثقلا لصيامه ، أو مستطيلا لأيامه ، من غير عزيمة ورغبة ، لم يكن صيامه حينئذ احتسابا ، ولم ينل المغفرة على صيامه ، لعدم تحقق شرط الاحتساب في صيامه ، الذي ذكرت معانيه ، ( انظر المباركفوري ، مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ، 6/404) ، رابعا : فإذا صام المسلم شهر رمضان إيمانا واحتسابا ، بالمعاني التي ذكرتها سابقا ، فقد استوجب المغفرة من الله سبحانه ، ولكن هذه المغفرة ليست كل المعاصي والذنوب ، بل هي مغفرة للصغائر من الذنوب ، أما الكبائر فتجب فيها التوبة النصوح ، وكذلك حقوق العباد فلا تغفر بمجر الصيام ، بل يجب رد الحقوق إلى أصحابها حتى تغفر ذنوب المسلم ، وتبرأ ذمّته منها ، وعليه حتى يقبل صيام المسلم في شهر رمضان ، وتغفر ذنوبه كله ، يجب عليه ما يلي : أولا : صيام شهر رمضان احتسابا ، ثانيا : صيام شهر رمضان احتسابا ، بالمعاني التي ذكرناها سابقا ، ثالثا : إبراء الذمّة من حقوق العباد قبل دخول شهر رمضان ، رابعا : التوبة النصوح من الكبائر قبل شهر رمضان ، فإذا لم تتحقق هذه الأمور ، فإن صيامه يعتريه النقص ، والخلل ، ولا تغفر له ذنوبه ، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا الصيام إيمانا واحتسابا ، وأن يغفر لنا الذنوب كلها .
والحمد لله رب العالمين

السبت، 1 مارس 2025

خصائص أول ليلة من رمضان

رقائق إيمانية
خصائص أول ليلة من رمضان
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
هذا هو اليوم الأول من أيام شهر رمضان ، ولهذا اليوم خصائص تُزيّنه ، وهي ست خصائص ، وقد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ)، وهذا الحديث الشريف من الأحاديث الصحيحة التي صححها الألباني في صحيح سنن الترمذي ، فتعالوا نتعرف إلى هذه الخصائص بالتفصيل ، أولا: تصفيد الشياطين ، والتصفيد للشياطين يعني : شدّ الأغلال والسلاسل عليهم ، ولفظ الشيطان مأخوذ من شَطّنَ ، بمعني : بَعُدَ ، وسُمّيَ الشيطان شيطانا ، لبعده عن رحمة الله تعالى ، ثانيا : تصفيد المردة من الجنّ ، وهم العتاة من الشياطين ، المتفرغون للشرّ، والمتجردون له ،فهؤلاء مصيرهم في أول يوم من رمضان ، شدّ أغلالهم والسلاسل عليهم ، وفي تصفيد الشياطين والمردة منهم في أول يوم من رمضان ، تهيئة الأجواء الصالحة للصائمين ، وإعانتهم على تحقيق الحكمة المستدامة من الصيام ، طيلة شهر رمضان ، وهي التمثل بالتقوى ، فيؤدي المسلم فيه ما أمره الله به من الفرائض والواجبات ، وينتهي فيه عما حرّم الله عليه من الكبائر والصغائر ، ويبادر إلى السنن والمستحبات فيفعلها ، ويحذر من المكروهات فيحاول اجتنابها ، وهذا كله لا يكون إلا بتهيئة الأجواء الصالحة الخالية من مرض الإغواء الذي يتصدره الشيطان ، فكان تصفيده إعانة للصائم على تحقيق الحكمة من صيامه ، فلا يفسد الشيطان على الصائم صيامه ، بل تزيد طاعات الصائم ، وقربه إلى الله سبحانه بأداء الفرائض والنوافل ، فمن يقمع شهوته من الصائمين ، ويعرف للصيام حقّه ، ويحقق شروطه ، وآدابه ، وأخلاقه ، فهذا الصائم هو الذي لا يخلص الشيطان إليه ، وعلى هذا فإن تصفيد الشياطين ومردة الجن هو تصفيد معنوي ، وليس على حقيقته المعروفة ، ثالثا : إغلاق أبواب النار : وهذا يعني إغلاق طرق الشر ومسالكه ، حين يؤدي الصائم صيامه على الوجه المطلوب منه شرعا ، فكما يمسك عن الطعام والشراب والجماع ، فكذلك يمسك لسانه ، ويده ، وعينه، وأذنه ، وقدمه ، وكل جوارحه عن كل ما نهاه الله تعالى عنه ، فحينها ، تغلق في وجهه أبواب النار ، وهذا الإغلاق في هذه الحالة يكون عل حقيقته ، رابعا : فتح أبواب الجنة : لأن مفتاح الجنة : الإيمان ، والأعمال الصالحة ، والصيام عبارة عن سوق قائمة ، بضاعتها الأعمال الصالحة من كل نوع ، فالإسلام أسهمه كثيرة ، والخاسر من لا سهم له من العمل الصالح ، فكلما أكثر الصائم من التسوّق من سوق رمضان بكل عمل صالح ، كلما فتح له باب الجنة ، واتسع له بابها ، وهذا الفتح لأبواب الجنة أيضا على حقيقته ، خامسا : المنادي الذي ينادي الصائمين للمبادرة إلى تقوى الله في رمضان ، والمسابقة إلى الخيرات بعمومها ، وفي هذا النداء تذكير للغافلين من الصائمين عن فعل الخيرات ليبادروا إليها ، وتذكير للصائمين المبادرين إلى فعل الخيرات في رمضان للاستزادة منها ، لأن شهر رمضان فرصة للتزود بالطاعات ، والصالحات ، والخيرات ، فهو أيام معدودات ، ثم يرحل ،فلا ينبغي رحيله عن صائم فيه ، وهو قليل البضاعة من العمل الصالح ، وهو مفلس أو يكاد أن يكون كذلك حين رحيله عنه ، سادسا : العتق من النار ، وهذا في كل ليلة من ليالي رمضان ، وفي هذا حثٌ على العمل الصالح ، والحرص على الخير في كل يوم من أيام رمضان ، وفيه تذكير للصائمين أن أحدهم قد يموت في أي يوم من أيام رمضان ، فينبغي له دوام البعد عن الشيطان وعمله ، وعن الجنّ وشرورهم ، وأن يغلق باب النار في كل لحظة من لحظات حياته وصيامه ، باجتناب ما يوجب دخولها ، وأن يطرق أبواب الجنة ، ويديم طرقها ، بكل عمل صالح ، وفعل للخير ، فإنه إن كانت هذه حاله ، كان من الناجين من النار ومن عتقائها ، ولا ينبغي لمسلم عاقل يدخل عليه شهر رمضان ، أن تفوته هذه الخصائص ، أو بعضها ، وخصوصا أول خصلتين منها ، وهي : تصفيد الشياطين ، وتصفيد مردة الجن ، لأنه عن استطاع تصفيدها بالمعنى الذي ذكرنها آنفا ، كان ما بعدها من الخصائص في متناول يده ، لأن إغلاق باب الفتنة والشر ، الذي تقوم به الشياطين ، أساس للإيمان الحق ، وأساس لكل عمل صالح والإقبال عليه ، وأساس لاجتناب كل معصية ، وفي هذه الخصائص التي يكرم الله بها الصائمين في أول ليلة من ليالي رمضان ، إعانة من الله للصائمين على أداء الصيام كما أمر به سبحانه ، صياما يحقق التقوى ، فما أحرى الصائمين أن يغتنموا هذا الفرصة ، بكل عمل صالح ، وباجتناب كل ما لا يرضاه الله منهم ، وأن يروا الله من أنفسهم كل ما يحبه منهم ، وأن تظل هذه الخصائص ماثلة أمام أعينهم ، وفي قلوبهم ، وعلى جوارهم ، ما دام رمضان قائما .
والحمد لله رب العالمين

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More