لا في العير ولا في النفير
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
العير هي الإبل المركوبة والتي يحمل عليها الطعام وغيره مما يحتاجه الناس ويتاجرون به (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : 9/230) ، وأما النفير فكثرة العدد من العدةّ والعدد من الرجال المحاربين ( المرجع السابق : 10/217) ، وأما هذا القول وهو :" لا في العير ولا في النفير " فقائله " أبو سفيان" بن حرب حين استطاع " النجاة بالقافلة التي كان يقودها من الشام إلى مكة ، حيث سمع الرسول صلى الله عليه وسلم بخبر قدوم هذه القافلة فأراد أن يغنمها من قريش فاستنفر المسلمين فخرج معه مئات من الصحابة الكرام لا يتجاوز عددهم أربعمائة رجل ، فلما أرسل " أبو سفيان " لقريش مخبرا بنجاة القافلة تشاورت قريش فيما بينها ،فأصّرت على الخروج لمقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فخرجت ، وكان من القبائل التي خرجت لقتال النبي صلى الله عليه وسلم قبيلة بني زهرة ، ثم هي في الطريق رأت أنه لا يوجد لها في القافلة الناجية ( العير) شيئا ، فلماذا تقاتل محمدا صلى الله عليه وسلم ؟ فقررت العودة إلى مكة وعدم المشاركة في القتال ، فما رآهم " أبو سفيان " في طريق عودتهم إلى مكة من غير رغبة في قتال المسلمين قال على سبيل الإنكار عليهم والإهانة لهم :" لا في العير ولا في النفير " فذهب قوله مثلا إلى يومنا هذا ، وعند الوقوف عند هذا المثل نرى أنه يضرب في الإنسان السلبي الذي لا دور له في المجتمع من حيث النفع والخير ، وأن مثل هذا الإنسان لا قيمة له عند غيره من أبناء المجتمع ، إذ الأصل أن يكون المسلم خاصة عضوا مؤثرا في المجتمع الذي يعيش فيه ، وفردا منتجا ومعطيا للمجتمع بكل خير يقدر عليه ، ولا يمكن أن نتصور أن في المجتمع المسلم مسلما يحطّ من قدره ومنزلته بسبب قصوره في فعل الخير وهو قادر عليه ، وعلى سبيل المثال لا الحصر فالمسلم في رمضان قد ينطبق عليه هذا المثل وهو " لا في العير ولا في النفير " في عديد الحالات ، أذكر بعضها ثم أنت أخي رعاك الله تقيس عليها الحالات المتبقية ، وهذه الحالات مثل : من يتعمد الإفطار في رمضان ، ويخفي إفطاره كالجرذ ، ومن لا يشارك المسلمين صلاة الجماعة ما استطاع إليها سبيلا ، ومن يضيع ليالي رمضان في السهر الدنيوي ، ولا يشارك جماعة المسلمين صلاة التراويح ، ومن لا يتفقد رحمه ، ويصلهم ، ومن هو غارق في المحرمات كعقوق الأبوين ، وأكل أموال الناس بالحرام ، والاعتداء على حرمات الناس وأعراضهم في شهر رمضان خاصة مع أن نفير الصائمين على قدم وساق في التوبة والاستغفار والعودة إلى الله والإنابة إليه ، فهذا لا في عير الصائمين ولا في نفيرهم ، وإذا أردنا أن نطبق هذا المثل على أمة العرب والمسلمين تجاه قضاياهم المصيرية ، فهم أيضا " لا في العير ولا في النفير " ، بل هم أسوأ حالا من " بني زهرة" لأن " بني زهرة " كانت تمتلك الحجة القاطعة في عدم مشاركة قريش قتال النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، لكن عموم الأمة المسلمة مختلفة عن " بني زهرة " لأن القضايا المصيرية التي تواجهها هي عيرها الذي يجب أن تنهض لحفظه لا أن تستدبره وكأن الأمر لا يعنيها ، بل عير الأمة المسلمة اليوم تقطع أوصالها على مرآى منها دون أن تحرك لها ساكنا ، وأما نفيرها فهو غارق في الاقتتال الداخلي ، وقمع الحريات ، ومشغول في مصالحه الذاتية التي لا تخدم مصالح من نفيرها لأجلهم ، وفي سياق آخر حول هذا المثل :" لا في العير ولا في النفير " ، فإن " بني زهرة " كانت رشيدة في قرارها ، فهي لم تشارك في قتال النبي وأصحابه ، حيث هُزمت قريش في بدر ، وكان ممن قتل منها " أبو جهل" ألذي كان يحمل سُلّم الحماسة للقتال بالعرض، فكان مصيره الخسارة في الدنيا والآخرة ، وكان مصير " بني زهرة" النجاة في الدنيا ، ودخول من دخل منهم في الإسلام ليفوز بالنجاة في الآخرة ، فكان العزوف عن النفير رشد منهم ونجاة لهم ، وأما من أنزلنا بهم المثل من المسلمين في شهر رمضان من جهة ، ومن الأمة المسلمة من جهة أخرى ، فهؤلاء لا رشد في تصرفاتهم ، ولا نجاة لهم إن لم يستدركوا ما فاتهم من العير ، ولم يلبوا حاجتهم من النفير ، للطاعات التي فرضها الله عليهم ، وأوجبها عليهم دينهم الإسلام ، ثم إن العير المحمّلة بأموال قريش و بالتجارات الرابحة نجا بها " أبو سفيان" بفطنته ودهائه ، وسلمت لأهلها ولأصحابها ، أما عير المسلمين اليوم من الذين أضاعوها في شهر رمضان ، ومن الذين فرّطوا فيها من المسلمين عامّة ، فهي من أفضل التجارات وأربحها ، لأنها تجارة مع الله ، وتجارة مع دين الله ، وتجارة مع مقدرات الأمة ،وتجارة مع تاريخها ، وأمجادها ، وسمعتها ، وشرفها ، وبذلك فهي تجارة لا تبور ، ومع كل هذا فإننالا نملك في هذا المقام إلا أن نقول لهؤلاء وهؤلاء كما قال يوسف عليه السلام : ( أيتها العير إنكم لسارقون ) يوسف (70)
والحمد لله رب العالمين