العبرة بالخواتيم
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
ثبت في صحيح البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الأعمال بالخواتيم) ، وهاتان كلمتان صادرتان عن النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم ، وهما من الوحي غير المتلّو ، الذي على كل مسلم خاصة ، أن يقف عنده ، ويعمل بما جاء به ، أمرا أو نهيا ، وهاتان كلمتان تقرعان القلوب ، وتهزان الوجدان ، لأنهما تقرران المصير الأبدي في الحياة الآخرة ، إما إلى جنة ، جعلنا الله وإياكم منها ، وإما إلى نار جهنم ، أعاذنا الله منها ، وكم بكى الصالحون قبلنا خوفا من سوء الخاتمة رغم صلاهم ، فهذا سفيان الثوري ، يبكي ليله كله ، وحين يُسأل عن سبب بكائه يقول : ( وإنما أبكي خوفا من سوء الخاتمة ) ، فماذا نقول نحن عن أنفسنا ؟ وماذا نفعل ؟ ونحن مقصرون ، ونحن في غفلة ، ونحن لا نحسن طاعة ربنا عزّ وجلّ على أكمل وجه ؟ ولقد نبهنا ابن القيم أن الخوف من سوء الخاتمة من أعظم الفقه ، أن يخاف المسلم أن تخذله ذنوبه عند الموت ، فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى ، ومن المبشرات بحسن الخاتمة ، والنجاة من سوئها ، أن يوفق الله المسلم على العمل الصالح قبل موته ويموت عليه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله خيرا بعبد استعمله )، قيل : كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال : ( يوفقه لعمل صالح قبل الموت ) ، ومن أجمل ما قرأت ونحن نقف على عتبات توديع شهر رمضان ما قاله ابن الجوزي : ( إن الخيل إذا بلغت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق ، فلا تكن الخيل أفضل منك ، فإنما الأعمال بالخواتيم ) ، ومثله قال ابن تيمية : ( العبرة بكمال النهايات ، لا بنقص البدايات ، وقديما قال الشاعر : ولو أنا إذا متنا تركنا ، لكن الموت راحة كل حيّ ، ولكنا إذا متنا بعثنا ، ونُسأل بعده عن كل شيء، وقد علمنا من سبقنا من السلف الصالح أن ندعو ونقول : ( اللهم اجعل خير عملي خاتمته ، وخير عمري أخره ) ، لأن العبرة بالخاتمة ، فهي التي ستلاقي ربك عليها ، وهي التي يذكرها الناس لك بعد موتك ، وهي التي تمحو ما قبلها ، ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تعجبوا بعمل عامل حتى تنظروا بما يُختم له ) ، وإذا كانت هذه خطورة الخواتيم ، ومصير النهايات ، فتعالوا نتذكر أننا في نهاية شهر رمضان ولم يبق منه إلا يوما أو يومين فالعاقل منا من يدرك نفسه وينقذها من عذاب النار قبل رحيل هذا الشهر الذي فيه كل ليلة عتقاء من النار فلا تيأس إن كنت مقصرا مع ربك تعالى ، ولا تقنط إن كنت من أهل الفجور والمعاصي ، فربك رحمن رحيم فاتح أبواب توبته ومغفرته لك ينتظرك أن تلج وتدخل ، هيا عجل ولا تسّوف في التوبة والرجوع ، حتى لو كنت منتهكا لحرمة الشهر كله فأمامك متسع للتوبة ، وأنت أيها الصائم الحبيب الذي أمضى نهاره في شهر رمضان صائما وفي ليله قائما حذار حذار أن تغتر بعملك فتهلك ،أو أن تظن نفسك عبدت الله حق عبادته فتجهل ، الطريق أمامك طويل ،فعبادة الله ليست في شهر رمضان بل هي في العمر كله فأنت مخلوق لعبادته سبحانه ومنذ أن بلغت وأنت عاقل فقد وجبت عليك العبادة لله وصرت مكلفا تحاسب على الصغيرة والكبيرة ، وعلى الفرض والحرام ، فكن ممن يعمل لآخرته في حياته كلها ، واعلم يا من أسرفت على نفسك في شهر رمضان وعصيت الله ربك ، ويا من أطعت الله في رمضان وأحسنت أن العبرة لكليكما بالنهاية ( بالخاتمة) وليس في البداية ،فلينظر كل منكما كيف تكون خاتمته فعليها يتوقف المصير في الآخرة ، فيا من عصيت ربك وأسرفت على نفسك من الذنوب أسرع فقد تسبق الطائع في شهر رمضان إن أحسنت الأوبة والتوبة بخاتمتك ، وأنت يا من أطعت الله في رمضان بالصلاة والصيام لا يغرنك صومك وصلاتك فالعبادة صوم وصلاة وصلة رحم وأخلاق حسنة وأمر بمعروف ونهي عن نكر وغير ذلك من أفعال الخير فهل حصّلتها كلها ؟ إن لم تحصّلها كلها فلا زال أمامك من العمر بقية فكن جامعا لخصال الخير في شر رمضان وفي أشهر السنة حتى إذا فجأك الموت كنت على خاتمة حسنة ، وأذكرك وأذكر كل مسلم طائع وعاص بقول ابن تيمية :" العبرة ليست بنقص البدايات وإنما العبرة بكمال النهايات فأصلح فيما بقي يغفر لك ما قد سلف ، وكما ذكرنا سابقا قول ابن الجوزي:" إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق فلا تكن الخيل أفطن منك فإنما الأعمال بالخواتيم ،فإذا لم تحسن الاستقبال لعلك تحسن الوداع " ،فخواتيم الأعمال أنت الذي يصنعها ويحددها فاجعل من عيدك عيدين ،عيد فطر من الصيام ، وعيد عزم على طاعة الله على الدوام ، وانتظر بعد ذلك جائزتك في الدنيا بتوفيق الله لك ، وفي الآخرة برضوان الله عنك.
والحمد لله رب العالمين
0 التعليقات:
إرسال تعليق