أعتق رقبتك من النار
رقائق إيمانية
الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى
من خصائص ليالي رمضان ، أن كل ليلة منها يكتب الله فيها العتق من النار لكل مسلم ، كتب الله له العتق منها ، وذلك مصداقا لما رواه الترمذي في سننه رقم (682) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (وَلِلهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ)،وإذا رجعنا إلى معاجم اللغة العربية لنعرف معاني كلمة " العتق" ، وعلاقتها بالمسلم الصائم في رمضان ، نجد أن العتق للصائم يشتمل على عدة معانٍ كلها – والله أعلم – مرادة من الحديث الشريف الدالّ عليها ، وهي : أولا : العتق في اللغة العربية يعني : الحرية ، وهو أشهر معانيها ، وأول ما يتبادر إلى ذهن سامعها ، والحرية مطلب إنساني لا يتنازل عنه البشر جميعهم ، لأنه أساس الكرامة الإنسانية ، وعليه تقوم الحياة ، ولأجل الحرية يبذل الأفراد والشعوب أرواحهم ،فإذا فقدوها كانت حريتهم أغلى من حياتهم ، ولنا أن نتصور هذا المعنى بالنسبة للمسلم الصائم ، فهو يبذل كل ما يستطيع من ترك شهواته ، ويسهر لياليه ، ويبذل مالهُ ، وينفقه في سبيل الله ، من أجل أن ينال أعظم حرية على الإطلاق ، هذه الحرية زمانها مطلق ، ونعيمها مغدق لا يزول ، وهي حرية الخلود في الجنة ، بعد أن كانت نيران جهنم متقدة ، تنتظره ليسجن فيها أبدا ، ويذوق فيها مرارة الذل ، وشدة الهوان ، ودوام البؤس ، إن هو انتهك حرمة رمضان ، ولم يظمأ نهاره ، ولم يجع بطنه فيه ، ولم يسهر ليله ، استجابة لأمر الله له بالصيام والقيام ، فما أعظم هذه الحرية ! وما أفضل هذا العتق من النار ! ثانيا : ومن معاني العتق في اللغة العربية : الكرم ، والعتق للمسلم الصائم من النار يوم القيامة من أعظم الكرم ، الذي يكرم الله به عباده المؤمنين المتقين ، الذين صاموا نهارهم ، وقاموا ليلهم في شهر رمضان ، وهل هناك كرم أفضل من كرم الحرية ؟ وهل هناك كرم أفضل من العتق من غضب الله على العبد ؟ وهل هناك كرم أنجى للعبد من العذاب في نار تتلظى ؟ والكرم الذي هو من معاني العتق في اللغة العربية ، يدلل على كرم الله المطلق ، وعلى اسم من أسمائه وهو " الكريم " ، وقد أمرنا الله سبحانه إذا دعوناه أن نكثر في دعائنا من قول " يا ذا الجلال والإكرام " ، ثالثا : ومن معاني العتق في اللغة العربية : الجمال ، وكيف لا يكون العتق من نار جهنم جمالا، وبه تصير الوجوه كما أخبرنا الله ( مسفرة ، ضاحكة مستبشرة) ، ولماذا لا تكون ليالي رمضان ليالي الجمال ، وفيها تصفو الروح ، ويقف الجسد في التراويح والقيام مرتاحا من كدر المعصية ، ونقيّا من دَرَن الذنوب ؟ أليس هذا هو الجمال بعينه ؟ أليس هذا هو العتق للروح والجسد من عبودية الدنيا ، والشهوات ، والملذات ؟ ولماذا لا تكون ليالي رمضان ليالي الجمال ، وفيها نزل القرآن ، وفيها تتنزل الملائكة البررة ، وفيها تصدح الحناجر بسور القرآن وآياته ؟ إن هذا لهو العتق الحقيقي للمسلم الصائم من ذل العبودية لغير الله تعالى ، هذا العتق الذي يضفي عليه جمالا في دنياه ، بالحياة المطمئنة ، وفي آخرته بالحرية التامة حين يسرح ويمرح في جنات عدن ، فيكون الجمال الأبدي ، حيث النعيم المقيم ، رابعا : ومن معاني العتق في لغة العرب : الصلاح ، والصلاح ميزان الحرية ، الذي به يوزن العتق للمسلم الصائم القائم ، لأن بالصيام والقيام صلاحه ، أليست حكمة الصيام كما أخبرنا الله بقوله : ( لعلكم تتقون) ؟ والتقوى هي جماع الصلاح كله ، وصلاح المسلم الصائم هو ثمرة صيامه ، وصلاح المسلم القائم في رمضان هو نتاج قيامه ،وهذا الصلاح به يكون المسلم عتيقا من المعصية التي تحبسه ، وبه يكون فكاكه من أسره الذي ينتظره يوم القيامة ، فهل أدركت أيها المسلم الصائم في رمضان ، والقائم في لياليه ، أهمية عتق رقبتك من ذل العبودية في الدنيا ، ومن سوء المصير في الآخرة ؟ إنه تكريم لإنسانيتك ، وجمال لشخصيتك ، وصلاح لذاتك ، ولا يكون عتقك إلا بهذه المعاني ، ولا نجاة لك من النار ، إلا بالقرب من ربك ، بالإيمان الصادق ، والإخلاص في القول والعمل ، وأداء ما فرض الله عليك ، واجتناب ما نهاك الله عنه ، فكن مع شهر رمضان كريما كي تكون عتيقه ، وكن في ليالي رمضان جميلا كي تكون فيها عتيقا ، واتخذ من تقلب نهار رمضان وليله طريقا لصلاحك ، كي تكون العتيق يوم الدين ، فهذا أبو بكر الصديق لقّبه النبي صلى الله عليه وسلم بالعتيق فقال له : (أنت عتيق من النار)، وكان رضي الله عنه يلقب بالعتيق لجماله أيضا ، فلا تخرج من شهر رمضان إلا وأنت محررٌ من سجن عبوديتك للشهوة والهوى ، فقم وتحرر منها كلها ، وتذكر أن ليالي رمضان ، فرصة لعتق رقبتك ، بكل ما تحمل هذه الكلمة من المعاني ، فقم هذه الليالي ، ولا تنم فيها إلا قليلا .
والحمد لله رب العالمين
0 التعليقات:
إرسال تعليق